نفط خام بلا بدائل و60 مليار دولار استيراد سنوي.. ميزان تجاري يكشف عجز الاكتفاء الذاتي في العراق
انفوبلس/..
لم تعد أرقام الميزان التجاري العراقي مجرد بيانات جافة تُنشر في تقارير رسمية أو تصريحات عابرة، بل تحولت إلى مرآة عاكسة لاختلالات عميقة تضرب صميم بنية الاقتصاد الوطني، وتضع علامات استفهام ثقيلة حول جدوى السياسات الاقتصادية المتبعة، وحدود ما تحقق فعلياً من وعود الاكتفاء الذاتي والتنويع الاقتصادي. فمع كل إعلان جديد عن حجم الاستيرادات، تتكشف صورة اقتصاد يعتمد بشكل شبه مطلق على الخارج لتأمين غذائه ودوائه واحتياجاته الأساسية، مقابل صادرات تكاد تنحصر في النفط الخام وحده، من دون قدرة حقيقية على تحويل الثروة النفطية إلى إنتاج محلي مستدام.
مفارقة صارخة
ويُظهر الميزان التجاري للعراق مفارقة صارخة؛ فبلد يمتلك واحداً من أكبر الاحتياطيات النفطية في العالم، وموارد طبيعية وبشرية واسعة، لا يزال عاجزاً عن بناء قاعدة إنتاجية تقلل من اعتماده على الأسواق الخارجية. هذا الواقع لا يعكس مجرد خلل مرحلي، بل يؤشر إلى أزمة بنيوية تراكمت عبر سنوات طويلة من السياسات الريعية، وسوء التخطيط، وغياب الرؤية الاقتصادية الشاملة.
في هذا السياق، يحذر الخبير الاقتصادي ناصر الكناني من اختلال خطير في الميزان التجاري العراقي، مؤكداً أن البلاد تستورد معظم احتياجاتها الأساسية مقابل تصدير شبه حصري للنفط الخام، وهو ما يكشف ضعفاً هيكلياً في الاقتصاد الوطني، وغياباً حقيقياً لمفهوم الاكتفاء الذاتي. ويقول الكناني في حديث له تابعته "انفوبلس" إن “العراق لا يصدّر فعلياً سوى النفط الخام، في حين يستورد الغذاء والملابس والأدوية ومعظم السلع الاستهلاكية، ما يجعل أي حديث عن سيادة اقتصادية حديثاً منقوصاً لا يستند إلى أرضية واقعية”.
ويضيف أن حجم الاستيراد السنوي للعراق يقترب من 60 مليار دولار، إلا أن ما يدخل فعلياً من بضائع وسلع حقيقية لا يتجاوز نصف هذا الرقم، مشيراً إلى أن “الفارق المالي الكبير بين قيمة الاستيراد المسجلة وقيمة السلع الفعلية يثير تساؤلات جدية بشأن المنافذ الحدودية، وآليات الاستيراد، ومستويات الرقابة، وحجم الهدر والفساد الذي يرافق هذه العمليات”.
تداعيات استراتيجية
ولا يقتصر الخلل عند حدود الأرقام، بل يتجاوزها إلى تداعيات استراتيجية تمس الأمن الاقتصادي والسياسي للبلاد. فالاعتماد على عدد محدود من الدول لتأمين الغذاء والطاقة والسلع الأساسية يجعل العراق مكشوفاً أمام أي توتر إقليمي أو سياسي، وقابلاً لتحول هذا الاعتماد إلى أداة ضغط في لحظات الأزمات. ويرى الكناني أن “الأمن الاقتصادي العراقي هش بطبيعته، لأنه مرتبط بالخارج أكثر مما هو مرتبط بقدرات داخلية مستقلة”.
وتكشف البيانات التجارية أن الاستيرادات العراقية تتركز بشكل لافت في عدد محدود من السلع، تتصدرها الأجهزة والمعدات الإلكترونية والكهربائية، والمعادن الثمينة وعلى رأسها الذهب، إضافة إلى السيارات ومعداتها، ثم الأجهزة الميكانيكية، ولا سيما أجهزة التبريد والتكييف. وتشير هذه البيانات إلى أن هذه السلع وحدها تستحوذ على أكثر من ثلثي قيمة الاستيرادات الكلية، ما يعكس نمط استهلاك مرتفعاً لا يقابله إنتاج محلي، ويعزز منطق الاقتصاد الاستهلاكي على حساب الاقتصاد المنتج.
في المقابل، تستمر هيمنة عدد محدود من الدول على خارطة التصدير إلى العراق، وفي مقدمتها الإمارات والصين وتركيا، وهو ما يعمّق حالة الارتهان التجاري، ويقلّص هامش المناورة الاقتصادية أمام صانع القرار العراقي. فبدلاً من تنويع الشركاء التجاريين، وبناء علاقات اقتصادية متوازنة، يجد العراق نفسه أسيراً لأسواق محددة، تتحكم بأسعار السلع، وشروط التوريد، وحتى بتوقيتات الإمداد.
ويجمع مختصون في الشأن الاقتصادي على أن استمرار استيراد الغذاء والطاقة والسلع الأساسية، رغم توفر الموارد الطبيعية والمالية، يمثل دليلاً واضحاً على فشل السياسات الاقتصادية في تحويل العوائد النفطية إلى مشاريع إنتاجية حقيقية، لا سيما في قطاعات الصناعة والزراعة والطاقة. فالعراق يمتلك أراضي زراعية واسعة، ومصادر مياه، وأيدٍ عاملة شابة، لكنه ما يزال يستورد محاصيل كان يفترض أن تكون جزءاً من أمنه الغذائي.
أما القطاع الصناعي، فقد بقي رهينة الإهمال، وتراجع الاستثمارات، وغياب الحماية للمنتج المحلي، ما أدى إلى إغلاق أو تعطل آلاف المصانع، وتحول السوق العراقية إلى ساحة مفتوحة للبضائع المستوردة، من دون قيود نوعية أو استراتيجية واضحة. وبدلاً من استثمار عوائد النفط في تحديث المصانع، وبناء سلاسل إنتاج محلية، تم توجيه الجزء الأكبر من هذه العوائد لتمويل الاستيراد، ورواتب القطاع العام، ونفقات تشغيلية لا تخلق قيمة مضافة طويلة الأمد.
الصادرات غير النفطية
وتشير البيانات التجارية إلى أن الصادرات غير النفطية العراقية لا تزال في حدود هامشية لا تكاد تُذكر، سواء من حيث القيمة أو التأثير في الميزان التجاري. وهذا الخلل يعني عملياً أن أي انخفاض في أسعار النفط، أو تراجع في حجم التصدير، ينعكس مباشرة على قدرة الدولة على تمويل الاستيراد، ويضع الاقتصاد أمام اختناقات حادة، كما حدث في أزمات سابقة.
ويرى مراقبون أن أخطر ما في هذا الواقع ليس حجم العجز بحد ذاته، بل اعتياد الاقتصاد العراقي على هذا النمط، وتحوله إلى حالة “طبيعية” في الخطاب الرسمي. فبدلاً من اعتبار الأرقام مؤشراً للإنذار، يتم التعامل معها كجزء من دورة اقتصادية ثابتة، من دون مراجعة جذرية للسياسات، أو إعادة تعريف لأولويات التنمية.
ويؤكد خبراء أن الخروج من هذا المأزق يتطلب أكثر من شعارات عن دعم المنتج المحلي أو تنويع الاقتصاد. فهو يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية، وإصلاحات مؤلمة أحياناً، تبدأ بضبط المنافذ الحدودية، ومحاربة الفساد في ملف الاستيراد، وإعادة هيكلة السياسة التجارية، مروراً بإطلاق برامج صناعية وزراعية طويلة الأمد، وصولاً إلى إعادة توجيه العوائد النفطية نحو استثمارات إنتاجية، لا استهلاكية.
في المحصلة، يكشف الميزان التجاري العراقي عن اقتصاد يعيش على مفارقة قاسية: ثروة نفطية ضخمة من جهة، واعتماد شبه كامل على الخارج من جهة أخرى. وبين هذين الحدين، تضيع فرص التنمية المستدامة، ويتحول النفط من نعمة محتملة إلى وقود دائم لاقتصاد الاستيراد، ما لم تُكسر هذه الحلقة بسياسات شجاعة تعيد تعريف معنى السيادة الاقتصادية، وتضع الإنتاج المحلي في صدارة الأولويات الوطنية.

