“النزيف الصامت”.. كيف تتآكل إسرائيل في حرب الاستنزاف مع إيران؟
انفوبلس/..
في خضم دخان الصواريخ، وهدير الطائرات المسيّرة، وصدى الانفجارات المتنقلة على طول الجبهات، هناك ما هو أخطر مما يسمع أو يُرى: إنّه الاستنزاف.
فالحرب بين إسرائيل وإيران، التي اندلعت قبل اكثر من اسبوع، لم تشبه أي مواجهة سابقة. ليست حربًا خاطفة على غرار حروب غزة، ولا عملية محدودة مثل غارات سابقة على سوريا أو لبنان، بل هي صراع طويل ومفتوح، يُنهك الكيان العبري يومًا بعد يوم، على كافة المستويات.
هذه المرة، لا يتعلق الأمر بانتصار في ميدان، ولا حتى بمجرد وقف إطلاق نار. ما يجري هو حرب بطيئة، لكنها مزلزلة. حرب تتسلل إلى العمق الإسرائيلي، لا عبر المتفجرات وحدها، بل عبر أزماتها المتوالدة، واختناق أنسجتها الداخلية.
كل شيء في إسرائيل يتعرض الآن للاستنزاف: الجيش، الاقتصاد، الجبهة الداخلية، النفس الجماعي، وحتى “الأسطورة” ذاتها، تلك التي رسخت لعقود أن إسرائيل لا تُهزم.
*بداية الحرب… والانفجار المُرعب للتوقعات الخاطئة
لم تكن إسرائيل تتوقع حربًا بهذا الشكل. كانت التقديرات العسكرية تتحدث، كعادتها، عن “ضربات دقيقة”، و”ردع سريع”، وربما بضعة أيام من التوتر تنتهي بإعادة الأمور إلى نصابها. لكن ما حدث قلب الموازين.
فإيران، بخلاف حسابات سابقة، لم تكتف بالرد عبر وكلائها. بل أطلقت من عمق أراضيها صواريخ باليستية دقيقة وطائرات مسيّرة هجومية، جعلت إسرائيل تغرق في ضربات من اتجاهات متزامنة، بعدما طالت الصواريخ الكيان من شماله الى جنوبه.
وبدلاً من أن تكون الضربة محدودة، صارت حربًا شاملة على مراحل، ممتدة، غير خاضعة لتوقيت سياسي أو سقف زمني. لم تكن هناك معركة فاصلة، بل تدفقت المواجهة كنهر هائج، يهدم الضفاف ويبتلع القرى… لا يُرى له قرار.
ومن هنا، بدأت إسرائيل تُدرك الكابوس الذي طالما خشيت وقوعه: إنها تُستنزف.
*الجيش… آلة تستهلك نفسها
منذ اللحظة الأولى للحرب، لجأت إسرائيل إلى تعبئة غير مسبوقة لقوات الاحتياط، استدعت فيها أكثر من آلاف الجنود، توزعوا على جبهات عدة، وصولاً إلى العمق حيث الحاجة إلى تغطية الأهداف الحيوية ضد الهجمات الدقيقة. لكن المشكلة لم تكن في الأعداد، بل في الزمن والتكلفة.
آلاف الجنود، كثير منهم لم يكن مستعدًا نفسيًا أو لوجستيًا. التدريب لم يكن محدثًا، والمخزون العسكري من الذخيرة قد ينفد بسرعة. الآلة العسكرية الإسرائيلية لا تنهار، لكنها تستهلك نفسها في سباق لا يُعرف نهايته.
*الجبهة الداخلية… عندما يبدأ الناس في فقدان الثقة
إن أخطر ما يُصيب دولة أثناء الحرب ليس فقط القصف، بل أن يشعر شعبها أن دولته لم تعد قادرة على حمايته. وهذا تمامًا ما بدأ يتشكل في الكيان الصهيوني. فمع تصاعد الهجمات الإيرانية بدأت صافرات الإنذار تدوي يوميًا في معظم المدن الكبرى: تل أبيب، القدس، حيفا، بئر السبع، وحتى مستوطنات الضفة. لكن المشكلة لم تكن في الإنذار، بل في ما بعده.
الملاجئ، التي يفترض أن تكون الملاذ الآمن، تبيّن أنها مهملة أو مغلقة، أو غير صالحة للاستخدام، كما وثّقت عشرات الصور والتقارير من مواطنين في عسقلان وصفد وكريات شمونة. أسر بأكملها نزلت إلى الأقبية، لا تجد ماءً ولا كهرباء، وبعضهم لزم الملجأ أكثر من 36 ساعة متواصلة بسبب القصف المتكرر.
ولأول مرة، بدأ الحديث عن “نكبة إسرائيلية داخلية”. فالمدنيون الذين كانوا يظنون أن الحرب ستُخاض بعيدًا عنهم، وجدوا أنفسهم في مرمى النيران، دون سند.
*الاقتصاد.. الأرقام تنزف مثل الجرحى
لا يمكن لإسرائيل أن تخوض حرب استنزاف طويلة دون أن يدفع اقتصادها الثمن.
وبالفعل، بدأت الأرقام تتحدث.
وتلقّى "الاقتصاد الإسرائيلي" ضربات متتالية منذ بدء العدوان على قطاع غزة عقب هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتكبّدت مختلف القطاعات خسائر فادحة كشفتها التقارير الرسمية والإعلامية المتخصصة في "إسرائيل"، ويتضح أن خسائر "الاقتصاد الإسرائيلي" ستتواصل بعد أن قرر قادة الاحتلال بدء الحرب على إيران.
ومع دخول الحرب بين "إسرائيل" وإيران يومها العاشر، تتزايد المخاوف من تأثيراتها الاقتصادية المرتقبة، سواء على صعيد النفقات العسكرية المتزايدة بشكل عام، واستنزاف مقدّراتها وميزانيتها المُرهقة أصلاً بسبب استمرار الحرب على غزة، أو على صعيد الإثقال على كاهل الإسرائيليين العاديين.
وبدأت تشهد الأسواق الإسرائيلية شحّاً في المواد الغذائية بسبب توقف الاستيراد، وإغلاق شبكة التسوق بسبب المخاطر الأمنية، فضلاً عن اقتراب قطاع الإنشاءات والبناء من الانهيار عقب سلسلة الانهيارات المتتالية للمباني التي استهدفتها الضربات الصاروخية الإيرانية.
أعلن وزير المالية الإسرائيلي بيتسلئيل سموتريتش أن الحكومة أنفقت 18.8 مليار شيكل (نحو 5 مليارات دولار أمريكي) على المجهود العسكري، منها تسعة مليارات شيكل ذهبت للشركات الصغيرة والمتناهية الصغر كتعويض غير مباشر عن تبعات الحرب، مشيراً إلى أن ميزانية الحرب بحاجة إلى الزيادة والنمو.
لكن الوزير الإسرائيلي كشف أنه عندما تم إقرار ميزانية 2025 "كنا نعلم أننا سنخوض حرباً مع إيران، فخصصنا ميزانية خاصة لمكتب رئيس الوزراء، ولذلك لم نتفاجأ، حيث حصلت المؤسسة العسكرية على الجزء الذي تحتاجه للاستعداد لما نشهده حالياً مع إيران، ولم يكن يعلم بالهجوم المتوقع على إيران سوى عدد قليل جداً من المسؤولين، لكن الجيش تلقى بعض الموارد للاستعداد لها، وهو يحتاج المزيد منها".
وفي الوقت الذي تزعم فيه الأوساط السياسية الإسرائيلية أن إزالة "التهديد" الإيراني من شأنه أن يقلل بشكل كبير من خسائر الاقتصاد الإسرائيلي بفضل زيادة الاستثمارات، والتحسّن الفوري في تصنيف ديونها، فإن محافل اقتصادية حذّرت من الدخول في حرب استنزاف مع إيران، في ظل استمرار العدوان على غزة.
وهو ما سيؤدي إلى زيادة الإنفاق العسكري، وقد يقود "اسرائيل" إلى نقطة انهيار خطيرة، وهو ما أكده أدريان بايلوت المحرر الاقتصادي في مجلة "كالكاليست" الاقتصادية، الذي اشترط البدء في إجراء التقييمات والتقديرات الاقتصادية للمواجهة العسكرية الجارية مع الأخذ بعين الاعتبار سيناريو إشكالي ينتظر الإسرائيليين.
ويتمثل التخوّف الإسرائيلي في الاستدراج إلى حرب استنزاف تُتقنها إيران، خاضتها سابقاً مع العراق، ما قد يسفر عن مزيد من التآكل للمناعة الاقتصادية الإسرائيلية، لأنها تتطلب زيادة الإنفاق العسكري على المدى الطويل، وارتفاع علاوة المخاطر، بل وتراكم العجز والديون، بالتزامن مع انخفاض الإيرادات الضريبية.
مع العلم أن الحكومة استنفدت بالفعل احتياطياتها بالكامل، خاصةً وأن هذه الحرب لم تكن مُدرجة في الميزانية، وإذا قُدّر لها أن تستغرق وقتاً طويلاً مثل حرب "السيوف الحديدية" في غزة، فإن السيناريو سيكون كارثياً على الإسرائيليين، سواء من حيث النمو، أو الاستثمارات، أو الأمور المالية.
لكن الأخطر ليس الرقم، بل المسار: الاقتصاد يتدهور، ولا أحد يعرف إلى أين يسير، ولا متى تنتهي هذه الحرب.
*الردع يتآكل… وسلاح الخوف لم يعد فعالًا
في عمق عقل الكيان الإسرائيلي، هناك مبدأ تأسيسي: "لا أحد يجرؤ على ضربنا بعمق، لأن العواقب ستكون كارثية". لكن في هذه الحرب، تغير كل شيء. الصواريخ الإيرانية ضربت قواعد جوية في الجنوب، وأخرى في حيفا. طائرات مسيّرة دقيقة استهدفت مقار حكومية، ومراكز قيادة، ومرافئ. الأهم: هذه الضربات لم تتوقف، رغم كل الردود الإسرائيلية. وهنا تكمن العقدة النفسية الجديدة: "الردع سقط، أو على الأقل تراجع بشدة".
في المقابل، يشعر الإسرائيليون أن كيانهم، الذي كان يوصف بانه لا يقهر، أصبح مهدد. ليس وجوده الآن على المحك، بل صورته، هيبته المزعومة، ذلك الإحساس المتفوق الذي بُني لعقود… يتآكل الآن بصمت.

