تضخيم الإنفاق العسكري.. جنون ترامب وتذبذب واشنطن يدفع أوروبا للتفكير بحماية نفسها والاستغناء عن "الوصاية" الأمريكية
انفوبلس..
مع ما جاء به ترامب من نوايا مجنونة نحو العالم فور وصوله للبيت الأبيض، وفي ظل تصاعد التهديدات الأمنية والأزمات الجيوسياسية؛ تتجه أوروبا لتعزيز قدراتها الدفاعية المستقلة، في خطوة تعكس تزايد القلق من الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة عبر حلف الناتو. ومع طرح الاتحاد الأوروبي خططاً طموحة لتعزيز الصناعة العسكرية وزيادة الإنفاق الدفاعي، تبرز تحديات كبيرة، أبرزها ضعف التنسيق بين الدول الأعضاء، والقيود المالية التي يفرضها ميثاق الاستقرار والنمو. وبينما يسعى القادة الأوروبيون لإيجاد حلول تمويلية مبتكرة، يظل السؤال المطروح: هل تستطيع أوروبا بناء منظومة دفاعية موحدة وفعالة في ظل الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية؟ وهل من الممكن الخلاص من عبء الاعتماد على واشنطن؟
في الآونة الأخيرة، أصبحت أوروبا أكثر اهتماماً بتعزيز قدراتها الدفاعية المستقلة في مواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة، خاصة بعد تصاعد الأزمات الجيوسياسية مثل الحرب في أوكرانيا.
يعكس هذا التوجه الحاجة المتزايدة إلى تحسين القدرات العسكرية الأوروبية بعيداً عن الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، التي كانت تلعب دورًا محوريًا في حماية القارة من خلال حلف الناتو.
ومع ذلك، تظل هناك تحديات كبيرة تواجه أوروبا في هذا الصدد؛ بدءاً من ضعف التنسيق بين الدول الأوروبية في مجالات الصناعة الدفاعية والتمويل، وصولًا إلى الحاجة الماسّة إلى القيادة العسكرية الموحدة.
نقاشات جادة
ويناقش زعماء الاتحاد الأوروبي سبل النهوض بالصناعة العسكرية وزيادة الإنفاق في قطاع الدفاع، في وقت تشير فيه المفوضية الأوروبية لحاجة دول التكتل إلى ما يقارب من 500 مليار يورو بهدف تعزيز قدراتها الدفاعية خلال العقد المقبل، والاستمرار في تقديم الإمدادات العسكرية لأوكرانيا من أجل الصمود في حربها ضد روسيا، وبالتالي تأمين الحدود الشرقية للاتحاد.
وتترافق هذه الأهداف مع الضغوط العلنية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي طالب مرارا الدول الأوروبية برفع سقف عتبة الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 5%، وهي عتبة لم تدركها أي دولة داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، التي يبلغ فيها حجم الإنفاق العسكري نسبة 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الرغم من الافتقاد إلى تفاهمات حتى الآن بشأن الإنفاق العسكري المشترك والدفاع داخل الاتحاد الأوروبي، إلا أن الدول الأعضاء تُبدي مبدئياً اهتماماً متزايداً في زيادة استثماراتها الوطنية في هذا المجال، وهو ما أعلنت عنه رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين التي أكدت تلقيها طلبات رسمية من زعماء دول أعضاء للمُضي قُدماً في هذه الخطط.
غير أن هذه الخطط الطموحة تواجه عقبات رئيسية ترتبط بالقيود التي يفرضها ميثاق "الاستقرار والنمو" للاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء.
ويفرض الميثاق على الدول الأعضاء التقيد بسياسة مالية للموازنة من أجل إبقاء العجز العام أقل من نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي وكذلك الدين أقل من 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي حال تجاوز هذا السقف، فإن الدول الأعضاء تكون معرّضة لتطبيق إجراءات "العجز المفرط" من قِبَل المفوضية الأوروبية بجانب عقوبات وغرامات.
وتخضع بالفعل حاليا 8 دول أعضاء وهي فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وبولندا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا لمثل هذا الإجراء.
وعلى هذا الأساس، تطالب العديد من دول التكتل، من بينها بولندا وإيطاليا واليونان ودول البلطيق، المفوضية الأوروبية بإبداء مرونة أكبر في الميثاق من أجل فتح الباب لإنفاق أكبر في قطاع الدفاع دون أن يعرّضها ذلك لمخاطر العقوبات.
وتريد هذه الدول أن تحذو المفوضية حذو خططها السابقة عندما اتخذت إجراءات استثنائية بتعليقها للقواعد الضريبية أثناء تفشي جائحة كورونا في العالم من أجل إتاحة الفرصة للدول الأعضاء لمساعدة الشركات والمواطنين في الديون المرتبطة بالجائحة.
وعلى الجهة الأخرى، هناك خلافات بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن زيادة الإنفاق المشترك.
وفي ظل معارضة شديدة لدول مقتصدة داخل التكتل مثل هولندا، فإن الاتحاد الأوروبي أصبح في حاجة إلى حلول مبتكرة لسد الفجوة الضخمة في تمويل الدفاع.
أولوية قصوى
ويقول حسين الوائلي، المحلل السياسي والخبير في شؤون الاتحاد الأوروبي في بروكسل: "يُعد الأمن والدفاع أولوية قصوى في الاتحاد الأوروبي، وهي تعادل الآن وجود المؤسسة نفسها، لكن زيادة الإنفاق سيلقي بظلاله على الوحدة الأوروبية لأن هناك انقساما كبيرا بين دول التكتل حول الآليات كما أن الإنفاق من شأنه أن يقوض النمو الاقتصادي للاتحاد".
ويضيف: "هناك إنفاق موجه لحلف الناتو وإنفاق الدول الأعضاء والإنفاق المشترك للاتحاد الأوروبي، هذا الإنفاق الثلاثي قد يرهق الأوروبيين".
مشكلة الإنفاق
وتحدثت شبكة "يورونيوز" نقلا عن مصادر داخل مؤسسات الاتحاد، عن طرح خيارات أخرى للتمويل المشترك، من بينها المطالبة بتغيير قواعد الإقراض في البنك الأوروبي للاستثمار حتى يتمكن من رفع الإنفاق في القطاع العسكري، وهو خيار دافعت عنه 19 دولة داخل الاتحاد.
ووفق الشبكة، أُدخلت بالفعل تعديلات في صلاحيات بنك الاستثمار الأوروبي في عام 2024 للسماح له بضخ أموال في المزيد من المشاريع ذات الاستخدام المزدوج، وقد زاد استثماراته في قطاع الأمن والدفاع إلى مليار يورو في 2024.
كما يخطط لمضاعفة هذا المبلغ العام الجاري. ونقلت عن مسؤول كبير داخل الاتحاد أن هناك "شعورا مشتركا بين الدول الأعضاء بالوضع الطارئ كما أن هناك إجماعا على أن أوروبا يجب أن تصبح لاعبا أكثر فعالية وأكثر استقلالية وأكثر موثوقية في مجال الدفاع".
يستحوذ قطاع الدفاع في الوقت الحالي على تمويلات تقدر بـ10 مليارات يورو من موازنة الاتحاد الأوروبي الممتدة 8 سنوات حتى عام 2027. ولن يكون متاحا إطلاق مفاوضات جديدة بشأن الإطار المالي للسنوات المقبلة إلا بدءا من صيف 2025.
ومن شأن المناقشات المستمرة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي لتعزيز القاعدة الصناعية للأمن والدفاع، أن تساعد المفوضية في تحديد التوجيهات اللازمة في "الكتاب الأبيض" بشأن الدفاع الذي سيصدر في 19 مارس/آذار 2025، قبل اجتماع الزعماء المقرر في أواخر يونيو/حزيران المقبل.
وسيعقب ذلك الاجتماع قمة زعماء الناتو التي من المتوقع أن يتم فيها الاتفاق حول رفع عتبة الإنفاق العسكري للدول الأعضاء.
وحدد الناتو نسبة الإنفاق على القطاع العسكري بـ2% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الأعضاء في 2014، لكن العديد من الدول الأوروبية تأخرت عن الالتزام بهذه العتبة.
ومن المتوقع أن يرفع التحالف هذه العتبة في قمة القادة في أواخر يونيو/حزيران المقبل، حسبما صرح به الأمين العام للحلف مارك روته في اجتماع مع المسؤولين الأوروبيين في بروكسل يوم 12 فبراير/شباط 2025، وهو ما يتوافق مع مطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يضغط من أجل الوصول إلى نسبة 5%.
وقد اضطر أعضاء الحلف الأطلسي إلى زيادة نفقاتهم الدفاعية في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
وفي نهاية 2024 تمكنت 24 دولة من بين 32 عضوا في الحلف، من تحقيق هدف الإنفاق بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 7 دول أعضاء فقط في 2018.
وبحسب بيانات موقع "وورلد فاكتبوك" التابع لمركز الاستخبارات الأميركية، فإن بولندا تتصدر في الوقت الحالي حجم الإنفاق العسكري من بين دول الحلف بنسبة 4.1% من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع أن تصل إلى 5% نهاية العام الجاري.
تليها دول البلطيق المتاخمة لروسيا بحجم إنفاق يبلغ 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة لأستونيا و2.9% بالنسبة لليتوانيا و3.2% للاتفيا.
لكن ليتوانيا ستبدأ عام 2026 وحتى العام 2030، بإنفاق ما يتراوح بين 5% و6% من الناتج المحلي الإجمالي تحسبا للمخاطر الأمنية على حدودها مع روسيا، وفق ما أعلن عنه مجلس الدفاع في هذا البلد، لتكون بذلك الدولة الأكثر إنفاقا على الدفاع مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي.
وفي أكبر اقتصاد بالاتحاد الأوروبي، ألمانيا، لا يزال حجم الإنفاق العسكري يخضع لقيود قانونية وبيروقراطية رغم دعوات سابقة من داخل الائتلاف الحاكم بزيادة الإنفاق العسكري وتخصيص تمويلات بـ100 مليار يورو لتحديث الجيش منذ الاجتياح الروسي لأوكرانيا.
ومع ذلك، لم يتعدَّ الإنفاق العسكري في ألمانيا في 2024 نسبة 2.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة ذاتها في فرنسا، ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد، بينما تنفق إيطاليا 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي وإسبانيا 1.3%.
وفي دول أخرى لا تنتمي إلى الناتو، مثل النمسا، لا يتعدى الإنفاق نسبة 1% وفي أيرلندا 0.2% ومالطا 0.8%.
السلام عبر الدفاع
ويقول مفوض الدفاع بالاتحاد الأوروبي، أندريوس كوبيليوس، إن الاستثمار في الدفاع هو استثمار في السلام، لذلك يقترح مجموعة من الخيارات، مثل إصدار "سندات دفاعية" وإعادة توجيه الأموال المخصصة لبرامج الاتحاد الأوروبي الأخرى، أو إعادة توظيف الأموال غير المستخدمة.
وقد ذكرت شبكة "يورونيوز"، أن بنك الاستثمار الأوروبي قام بالفعل بتغيير قواعده لتوفير مبلغ إضافي قدره 6 مليارات يورو لأنظمة الأمن والدفاع ذات الاستخدام المزدوج في أوروبا.
لكن مع ذلك، فإن الرقم لا يقارن بحجم التمويلات الموجهة لقطاع البيئة البالغة نحو تريليون يورو، بحسب مفوض الدفاع.
وفي عام 2024 بلغ حجم استثمار الدول الأوروبية بمعية كندا، الحلفاء في حلف الناتو، في قطاع الدفاع 485 مليار دولار، أي بزيادة تقدر بنحو 20% مقارنة بعام 2023، وفق الأمين العام للحلف مارك روته الذي طالب صراحة في اجتماعات بروكسل في فبراير/شباط بـ"تقاسم أكثر إنصافا للأعباء".
وبحسب النقاشات التي تدور داخل الدوائر الأوروبية بشأن القدرات العسكرية، فإن الاتحاد الأوروبي يريد زيادة الإنفاق في المجالات التي تمثل أولوية بالنسبة له والتي يمكن أن تكون ذات قيمة مضافة.
وذكر رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي أنطونيو كوستا، أن الأولوية موجهة أكثر إلى الدفاع الجوي ومضادات الصواريخ والذخيرة والصواريخ والنقل العسكري والدفاع البحري والدفاع السيبراني والطائرات المسيرة.
عبء الحليف
وفي هذا السياق، يُطرح تساؤل رئيسي: هل يمكن لأوروبا أن تدافع عن نفسها بشكل فعّال دون الدعم العسكري الأميركي؟
صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، ذكرت في تحقيق مطول لها تحت عنوان "هل تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسها بدون أميركا؟"، أنه "منذ الانتخابات الأميركية، أصبحت الدعوات الأوروبية إلى العمل العسكري المستقل أكثر إلحاحًا، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حذر من أن أوروبا لا ينبغي أن تصبح "حيوانا عشبيا" ضعيفا محاطا بـ"حيوانات آكلة اللحوم".
ورغم الخطابات الأوروبية المنددة، لم تواكب الأفعال تلك التصريحات، وهناك قلق متزايد في دول البلطيق وبولندا بشأن أمنها، حيث يُحذر المسؤولون من أن الأوروبيين قد يضطرون إلى تحمل المزيد من العبء الدفاعي.
وأضافت الصحيفة، إنه منذ بدء الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، تزايد التواجد العسكري لحلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية، ووافقت الدول الأعضاء على خطط عسكرية متطورة، بما في ذلك "نموذج القوة الجديدة" الذي يسمح بنقل 100 ألف جندي في أقل من عشرة أيام.
تحديات صعبة
من الناحية العسكرية، تواجه أوروبا تحديات كبيرة؛ فالجيش البريطاني يعاني من قلة التمويل والمعدات، والمخزونات العسكرية الفرنسية ضئيلة، في حين أن الجيش الألماني يواجه صعوبة في تحديث معداته بسبب القيود المالية.
ويُقدر معهد الدراسات الاستراتيجية الدولي أن الوفاء بالتزامات الناتو يتطلب تعزيز الاستعدادات الأوروبية بشكل كبير وإغلاق النواقص في القدرة الدفاعية.
وتتمثل إحدى المشاكل في عدم كفاءة صناعة الدفاع المجزأة في أوروبا. فوفقاً لشركة ماكينزي، تمتلك الولايات المتحدة 32 نوعاً من الأنظمة في 11 فئة رئيسية من أنظمة الأسلحة الرئيسية ــ مثل الطائرات المقاتلة والدبابات والمدمرات ــ في حين تحتفظ أوروبا بـ 172 نوعاً.
هذا الافتقار إلى الحجم يزيد من التكاليف ويحد من قابلية التشغيل المتبادل ويخلق كوابيس لوجستية، حتى مع أشياء بسيطة مثل الذخيرة التي يُفترض أنها قياسية في جميع أنحاء حلف شمال الأطلسي. على سبيل المثال، كان على القوات المسلحة الأوكرانية التعامل مع أكثر من 12 نوعًا مختلفًا من قذائف المدفعية عيار 155 ملم، وغالبًا ما كان عليها ضبط مدافعها لكل إصدار.
ووفق التحقيق، تعد اللوجستيات جزءاً أساسياً من تحديات الدفاع الأوروبي. على سبيل المثال، يُقدر إدوارد سترينجر، المارشال الجوي البريطاني السابق، أن "أمور مثل توفير الذخيرة والنقل والخدمات اللوجستية، هي الأمور التي تبرز عند الحديث عن قوة الدفاع المستقلة.
ولكن بعض ما تقدمه الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي ــ مثل أسطولها من طائرات الشحن من طراز سي 17، التي تكلف الواحدة منها 340 مليون دولار، ويمكنها حمل 75 طناً من المعدات لمسافة تقارب 4500 كيلومتر دون إعادة التزود بالوقود ــ لا يمكن تعويضه تقريبا.
كما تحتل طائرات إف-35 الأميركية الصنع بشكل متزايد مركزا في قلب القوة الجوية القتالية لحلف شمال الأطلسي، ومن المتوقع أن تعمل أكثر من 500 طائرة مقاتلة منها في أوروبا بحلول منتصف ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين، وفقا لتقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية.
إضافة إلى ذلك، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديًا في صناعة الدفاع المجزأة. فبدلاً من التنسيق بين الدول الأعضاء لتوحيد الصناعات الدفاعية، يعزز التركيز على المستوى الوطني الفروقات في القدرات، مما يزيد من تعقيد العمليات اللوجستية ويجعل من الصعب توفير الأسلحة والذخائر بشكل موحد.
قيادة تاريخية
كما أن غياب القيادة الأميركية في حلف شمال الأطلسي سيكون له تأثير كبير. تاريخيا، كان القائد الأعلى للحلف أميركيًا، ولكن في حال تقليص الدور الأميركي، سيكون من الصعب تحديد القيادة المتفق عليها بين الدول الأوروبية. يشير سترينجر إلى أن "إنهاء القيادة الأميركية قد يتسبب في نزاعات بين الأعضاء الأوروبيين". ففي حال لم يكن هناك قائد موحد، قد تتصاعد الخلافات بين الدول مثل فرنسا وبولندا، مما يؤثر على التنسيق العسكري.
أحد أكبر التحديات التي تواجهها أوروبا هو التمويل. على الرغم من أن الإنفاق الدفاعي الأوروبي قد زاد بنسبة الثلث منذ عام 2022، وتحقق 23 دولة من أصل 32 هدف الإنفاق بنسبة 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، لا تزال هناك صعوبات في تحقيق الأهداف الطموحة.
وزيادة الإنفاق الدفاعي يُنظر إليها على أنها ضرورة لتقليل خطر الصراع في المستقبل، لكن الأزمة المالية العامة وارتفاع مستويات الدين العام تجعل من الصعب تخصيص الأموال لهذا القطاع. من جهة أخرى، تطرح بعض الدول مثل إيطاليا وبولندا فكرة إصدار سندات مشتركة لتمويل الزيادة الدفاعية، لكن ألمانيا وهولندا تعارضان هذا الاقتراح.
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها ترامب إلى أوروبا، قائلاً إن "الأوروبيين لا يدفعون فواتير الدفاع"، يبقى دعم الولايات المتحدة لحلف الناتو أمرًا حيويًا. حتى مع انخفاض عدد الجنود الأميركيين في أوروبا من 90 ألفًا إلى نحو 65 ألفًا، فإن وجود أميركا في الحلف يُعتبر عاملاً حاسمًا في تعزيز القدرة الدفاعية الأوروبية.
تجدر الإشارة إلى أن ترامب ليس الرئيس الأميركي الأول الذي يشكو من عبء الدفاع الأوروبي، حيث كان جون كينيدي قد طرح أسئلة مشابهة حول استدامة النفقات العسكرية الأميركية في أوروبا. ومع ذلك، لم يكن أي رئيس أميركي قد طرح فكرة تقليص الدعم إلى هذه الدرجة، كما فعل ترامب في تصريحاته الأخيرة.
بينما لا يزال من غير الواضح ما الذي سيفعله ترامب، يشير الخبراء إلى أن هناك دعمًا قويًا لحلف الناتو في الكونغرس الأميركي، وأن حلف الناتو بدون الولايات المتحدة سيكون غير فعال.
تقدم بطيء
خبير الشؤون الأوروبية، محمد رجائي، تحدث عن التحديات التي تواجه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في سعيها لتشكيل قوة تدخل موحدة للتدخل السريع، موضحاً أنه على الرغم من المحادثات المستمرة حول إنشاء هذه القوة منذ سنوات، إلا أن التقدم كان بطيئاً، حيث تم الحديث في البداية عن قوة تتكون من 2000 جندي، ثم زادت الأعداد إلى 5000 جندي، لكن لم يتم تحقيق ذلك حتى الآن.
يشير رجائي إلى أن هناك انقسامات بين الدول الأعضاء حول مسألة الدفاع. فبينما تفضل دول مثل بولندا والدول شرق الأوروبية الاعتماد على حلف شمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، تبرز دول مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا وهولندا أهمية وجود قوة عسكرية أوروبية مستقلة للدفاع عن القارة في حال تعرضها لهجوم خارجي، مثل الهجمات المحتملة من روسيا.
ويلفت إلى أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لم تتمكن حتى الآن من رفع ميزانياتها العسكرية إلى 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي كما طالبت الولايات المتحدة، مما يعكس مشكلة التمويل والقدرات اللوجستية. كما يُشدد على أن دعم الدول الأوروبية لأوكرانيا في الصراع مع روسيا كان مكلفاً، وأن إمدادات الأسلحة لها أثرت على المخزونات الاستراتيجية للدول الأوروبية.
ويوضح أيضاً التحديات اللوجستية والخلافات بين الدول الأوروبية في مجال شراء الأسلحة، بالإضافة إلى الصعوبات في توحيد الأنظمة الدفاعية بين الجيوش المختلفة. كما يُشير بركات إلى أن الولايات المتحدة لن تسمح بفصل أوروبا عسكرياً؛ نظراً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
ويرى مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، أبو بكر الديب، أن أوروبا لا تستطيع في الوقت الحالي الانفصال عن العباءة الأميركية أو تحمل عبء الدفاع عن نفسها في مواجهة التهديدات المتزايدة التي تواجهها، موضحاً أن هذا الوضع يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية عندما وضعت الولايات المتحدة مظلتها العسكرية على أوروبا، وأنشأت قواعد عسكرية في القارة، وخاصة في أوروبا الشرقية.
ويشير الديب إلى أن الدول الكبرى في أوروبا، مثل ألمانيا، تعتمد بشكل كبير على التواجد العسكري الأميركي، مما يجعلها لا تنفق الكثير على تعزيز قدراتها الدفاعية. ومع أن هناك دعوات واسعة لتغييرات جذرية بدأت تظهر في مراكز الأبحاث الأوروبية، إلا أن هذه الآراء لا تزال غير مرحب بها بشكل واسع بين الساسة الأوروبيين.
ويتطرق إلى تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما دعا إلى ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤوليتها الدفاعية وتزيد من إنفاقها العسكري. ولكنه يشير إلى أن هذا الرأي لم يلق قبولاً عاماً، لأن عديداً من الدول الأوروبية تستفيد من الحماية العسكرية الأميركية، مما يمكنها من توجيه مواردها نحو الرفاهية الاجتماعية.
ويحذر الديب من أنه إذا تخلّت الولايات المتحدة عن دعمها، فإن أوروبا ستجد نفسها مضطرة لزيادة نفقاتها العسكرية بشكل كبير، في ظل عدم وجود جيوش قوية في معظم الدول الأوروبية باستثناء فرنسا وإنكلترا وإيطاليا. ويشدد على أن الأحداث في أوكرانيا تمثل جرس إنذار كبير لأوروبا، مما يستدعي التفكير في وسائل دفع ذاتية للدفاع عن النفس بعيداً عن الاعتماد على الجانب الأميركي.
ويختتم تصريحاته بالتأكيد على أن فترة ترامب الثانية قد تشكل أيضاً جرس إنذار قوي يدفع الدول الأوروبية نحو زيادة الإنفاق العسكري وتحمل المزيد من المسؤوليات الدفاعية.