أزمة تأخر رواتب المتقاعدين في العراق تشتد والشكوك تتصاعد.. عجز مالي أم تضييق أمريكي؟
انفوبلس/ تقرير
بينما ينتظر ملايين المتقاعدين في العراق راتبهم الشهري الذي يُعيل أُسرهم ويوفر لهم الدواء والغذاء، يجدون أنفسهم للشهر الثاني على التوالي أمام أزمة معقدة عنوانها تأخير الرواتب. هذه الأزمة لم تعد مجرد خلل إداري أو تقني كما تحاول الجهات الرسمية الترويج له، بل أصبحت تُجسد صورة أكثر تعقيداً لأزمة سيولة حقيقية تهدد حياة فئات هشّة تعتمد على هذه المستحقات بشكل كامل، وتكشف في الوقت نفسه هشاشة البنية الاقتصادية العراقية القائمة على النفط وحده.
وبينما تلتزم هيئة التقاعد بالصمت المُربك، تتصاعد التحذيرات من خبراء الاقتصاد ونواب البرلمان، مؤكدين أن الخطر لن يقف عند المتقاعدين، بل قد يطرق أبواب موظفي الدولة في قادم الأيام. فما الذي يحدث فعلاً؟ ولماذا يجد العراق الغني بالنفط نفسه عاجزاً عن دفع رواتب تقاعدية لا تتجاوز نسبياً جزءاً بسيطاً من موازنته الضخمة؟
يمثل المتقاعدون في العراق شريحة واسعة تضم قرابة 3 ملايين مواطن بين مدني وعسكري. هؤلاء يشكلون مع عوائلهم ما يقارب 10 ملايين نسمة أي ربع سكان العراق تقريباً، ما يجعل أي تأخير في صرف رواتبهم أزمة وطنية بامتياز، وليست مجرد خلل إداري.
رواتب التقاعد ليست دخلاً إضافياً يمكن الاستغناء عنه، بل هي مصدر العيش الوحيد لفئة كبيرة، أغلبهم من كبار السن، ومن ذوي الأمراض المزمنة والاحتياجات الخاصة. هؤلاء لا يملكون القدرة على العمل أو الحصول على بدائل، وبالتالي فإن أي تأخير ولو لأيام قليلة يعني حرمانهم من شراء الأدوية والعلاج والغذاء، ما قد يؤدي في حالات كثيرة إلى تهديد حياتهم مباشرة.
"شد الأحزمة" يقترب
رجّح الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي، في منشور على حسابه في فيسبوك، تابعته "انفوبلس"، إن “تأخير الرواتب لن يقتصر على المتقاعدين فقط، وإنما سيمتد أيضا إلى رواتب الموظفين، لأن أموال النفط لم تعد كافية لتغطية الرواتب".
وأضاف، أن "السبب الآخر، هو أن قدرة الدولة على الاقتراض الداخلي وخصم الحوالات باتت ضعيفة جدا". ونصح المرسومي: "عليكم بالأحزمة فقد تحتاجون إليها قريبا، (واللي ما يصدك خل يروح يشرب من شط العرب)".
في المقابل، قال رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية كريم عليوي، في بيان، إن "راتب المتقاعدين خط أحمر، ونرفض أي تأخير بمستحقاتهم، وعلى الحكومة العراقية صرف رواتب المتقاعدين والرعاية الاجتماعية دون أي تأخير"، مبينا "نحن لا نجامل في هذه المواقف كون المتقاعد والرعاية الاجتماعية هي لفئة ليست قليلة واعتمادها الكلي على هذا الراتب".
وأضاف، أن "هذه الفئات أغلبهم من أصحاب الأمراض والالتزامات الخاصة، إذ نجد أكثرهم لا يستطيع شراء الدواء في حال تأخرت عليهم، لربما البعض سيفقد حياته، وفي هذا الحال تعتبر جريمة ولا نقف ساكتين"، مشيرا إلى أن "تلاعب الحكومات في صندوق التقاعد جريمة ويجب محاسبة المتسببين".
ويعاني العراق من أزمة مالية خانقة، إذ تذوب إيراداته النفطية في بحر الرواتب والمخصصات دون أن تترك مجالا للتنمية أو الخدمات. وبحسب خبراء الاقتصاد، فإن أكثر من 99% من عوائد تصدير النفط الخام تذهب مباشرة لتغطية الرواتب والتعويضات، ما يضع الحكومة أمام خيارات صعبة ومريرة.
ويعد استمرار الدولة العراقية بالاعتماد على النفط كمصدر وحيد للموازنة العامة، أمرا خطرا في مواجهة الأزمات العالمية التي تحدث بين الحين والآخر لتأثر النفط بها، مما يجعل البلاد تتجه في كل مرة لتغطية العجز عبر الاستدانة من الخارج او الداخل وهو بذلك يشير إلى عدم القدرة على إدارة أموال الدولة بشكل فعال، والعجز عن إيجاد حلول تمويلية بديلة، بحسب مختصين.
ووفقا للمالية العراقية، فإن 91% من إيرادات العام الماضي جاءت من النفط،127 تريليونا و536 مليارا و400 مليون و812 ألف دينار، فيما بلغت الإيرادات غير النفطية 13 تريليونا و237 مليارا و705 ملايين و728 ألف دينار.
وكان المستشار المالي والاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح، أكد في تقرير سابق وجود "هيمنة تاريخية للريع النفطي في مكونات موارد الموازنة العامة السنوية في البلاد، إذ ما زالت عوائد النفط تشكّل قرابة 91 بالمئة من إجمالي الإيرادات الفعلية السنوية في الموازنات الحكومية لقاء 9 بالمئة للإيرادات غير النفطية، والسبب يعود إلى غلبة الاقتصاد الأحادي النفطي في تكوين الناتج المحلي الإجمالي للعراق الذي يتراوح بين 50- 45 بالمئة من الناتج الإجمالي السنوي، في حين نجد أن تأثيرات إنفاق العوائد النفطية على دورة الحياة الاقتصادية تمتد إلى أكثر من 85 بالمئة من فاعلية النشاط الاقتصادي الكلي؛ الأهلي والعام في العراق".
مطلع الأسبوع المقبل
كشفت تقارير ومصادر، عن احتمالية تأجيل رواتب المتقاعدين الى إشعار آخر وحتى مطلع الأسبوع المقبل، بعد أن تأخر صرفها 4 أيام حتى الآن من موعدها الحقيقي المحدد بالأول من كل شهر.
من جانب آخر، تقول مصادر أخرى إن رواتب المتقاعدين تأخرت هذا الشهر لأسباب فنية تتعلق بأنظمة التحويلات المصرفية، والأمر لا يتعلق بتوفر السيولة المالية.
لكن في الحقيقة، إن هذا السبب "يأكل بعضه"، فعند الحديث عن تأخر التحويلات المصرفية، فهذا يعني عدم وجود سيولة مالية، لذلك تضطر وزارة المالية انتظار استلام التحويلات المالية لمبيعات النفط من المصارف الأمريكية، وهو ذات السبب الذي أكدته وزارة المالية في الشهر الماضي عند تأخر صرف رواتب المتقاعدين حتى الرابع من شهر آب.
وذهب مراقبون الى مساحة أبعد بتأخر صرف رواتب المتقاعدين، حيث أكدوا أن تأخر تحويلات أموال النفط من الولايات المتحدة الى العراق والذي تسبب بتأخر صرف رواتب المتقاعدين، يكشف عن عمليات تضييق ومراقبة وتشديد على أبواب صرف هذه الأموال قبل تحويلها.
بينما اللجنة المالية النيابية كشفت، اليوم الخميس، عن سبب تأخير صرف رواتب المتقاعدين، كما أعلنت أنه سيتم صرفها منتصف الأسبوع المقبل. وقال عضو اللجنة معين الكاظمي، إن "وزارة المالية تبدأ بتمويل رواتب الموظفين والمتقاعدين ابتداءً من يوم 20 من كل شهر وبشكل تدريجي يتم إيداع المبالغ في حسابات هذه الوزارات إلى نهاية الشهر".
وأضاف، إن "المالية تقوم بتمويل هيئة التقاعد دفعة واحدة لما يقارب ثلاثة ملايين متقاعد بمبلغ يصل إلى تريليون و500 مليار دينار، 500 مليار منها من التوقيفات التقاعدية والتريليون المتبقي هو من إيرادات وزارة المالية".
وبين الكاظمي، أنه "في بعض الأحيان يكون هناك تأخير في تهيئة السيولة المالية اللازمة بسبب تصدير النفط أو بسبب الإيرادات غير النفطية ونقص السيولة، وهو ما دفع إلى تأخير صرف رواتب المتقاعدين لغاية الآن". وأشار إلى أن "وزارة المالية ستقوم بصرف رواتب المتقاعدين كحد أقصى يوم الأحد أو الاثنين من الأسبوع المقبل، وهي تعمل على تهيئة وتجهيز السيولة المالية النقدية اللازمة لهذه الرواتب".
وبعد الصمت الطويل، أصدرت وزارة المالية، اليوم الخميس، توضيحًا حول تأخر صرف رواتب المتقاعدين لشهر أيلول، مؤكدة أن التأخير يعود إلى "أسباب فنية بحتة" وليس لنقص في السيولة المالية. وذكر بيان للوزارة أن الأموال المخصصة للرواتب "مؤمّنة بالكامل ومرصودة مسبقًا"، وأن التأخير يتعلق بعمليات الصرف والتحويلات المصرفية، مما أدى إلى تعطل موعد الإطلاق.
وأكدت الوزارة أن فرقها الفنية تعمل بالتنسيق مع المصارف لضمان استئناف الصرف "خلال الفترة القليلة المقبلة"، لكن هذا التبرير لم يكن مقتنعا تماما بسب تكرار الازمة وعدم مصارحة العراقيين بالواقع الذي كشف عنه خبراء ونواب.
وتأخر الرواتب ترك آثاراً قاسية على المتقاعدين وعوائلهم. آلاف العوائل وجدت نفسها غير قادرة على شراء الأدوية أو دفع الإيجارات أو تلبية الاحتياجات الأساسية. هذا الوضع خلق حالة من الإحباط والقلق، بل والغضب الذي قد يتحول إلى احتجاجات شعبية واسعة إذا ما استمر التأخير.
في مجتمع مثل العراق، حيث يُنظر إلى الرواتب بوصفها "حقاً مقدساً" وليس مجرد دخل، فإن المساس بها قد يشعل غضباً لا يمكن التنبؤ بنتائجه.
والخلاصة، فإن أزمة تأخر رواتب المتقاعدين في العراق ليست حادثة عابرة، بل جرس إنذار قوي يكشف عن خلل عميق في إدارة المال العام، وعن هشاشة اقتصاد قائم على النفط وحده.
الخطير في الأمر أن الحكومة لم تقدم حتى الآن تبريراً مقنعاً أو خطة واضحة لتفادي تكرار الأزمة، بل اكتفت بتطمينات مؤقتة لا تصمد أمام الواقع. أما البرلمان والخبراء فقد أجمعوا على أن استمرار التأخير يمثل "جريمة" بحق المتقاعدين، وأنه قد يمتد ليشمل الموظفين لاحقاً.
وبينما يبقى ملايين العراقيين بانتظار "راتبهم المنقذ"، تتكشف حقائق مرة: دولة ريعية تعجز عن إدارة أموالها، وحكومة تفتقد الحلول، ومجتمع يقف على حافة أزمة اجتماعية كبرى.


