العراق الذي يشتغل في الظل: حين تتحول لقمة العيش إلى مقامرة بالحياة وغياب الحماية الاجتماعية إلى لعنة يومية
انفوبلس/..
في كل صباح، يخرج الآلاف من العمال العراقيين إلى الشوارع والمصانع والورش الصغيرة وهم يحملون بين أيديهم أدوات العمل، وفي صدورهم خوفٌ لا يُرى. خوفٌ من الإصابة بلا تعويض، من الشيخوخة بلا تقاعد، ومن الغد الذي لا يعد بشيء سوى استمرار الدوران في حلقة العمل بلا أمان. هم عمّال القطاع الخاص والقطاع غير النظامي، أولئك الذين يقيمون اقتصاد البلد على أكتافهم، ثم يظلون خارجه حين تُوزّع الحقوق. يشتغلون في الظل، وينامون على وسادة من القلق.
في المقاهي الشعبية، وفي الأسواق القديمة، وفي الورش الصغيرة الممتدة من بغداد إلى البصرة، تتكرر القصة ذاتها: أرباب عمل يتهرّبون من تسجيل العمال، قوانين تنصّ على الضمان ولا تُطبّق، وحكومات تتعهد بالحماية لكنها تنسى بعد حين.
بين النصوص الجميلة في التشريعات وبين الواقع البائس على الأرض، ثمة فجوة واسعة لا يسدها سوى وجع العامل العراقي، الذي يُساق إلى العمل كمن يدخل معركة يومية ضد الجوع والخطر معًا.
*هدر الحقوق
يقول رئيس الاتحاد العراقي لنقابات العمال، وليد نعمة، إن “شريحة واسعة من العمال تعاني هدراً واضحاً في حقوقها بسبب ضعف تطبيق أحكام الضمان الاجتماعي بشكل عادل”، مؤكداً أن النتيجة المباشرة لذلك هي “فقدان الحقوق الأساسية مثل التقاعد وضمان الشيخوخة والتعويض عن إصابات العمل”.
كلمات نعمة ليست نظرية. فهي تختصر مئات القصص التي تمرّ دون أن تُكتب: عامل يسقط من بناية في بغداد فلا يجد سوى صدقات الجيران، وعامل في الكوت يفقد يده اليمنى دون أن يعرف أن القانون يمنحه تعويضاً، وبائع متجول في كربلاء يصاب بالسرطان بعد سنوات من العمل تحت الشمس، فيموت دون أن تُذكر له صفة “مضمون”.
يصف نعمة الواقع بمرارة قائلاً: “النتيجة هي مجتمع بلا استقرار، وأسرٌ تفقد معيلها فجأة دون سند، وأبناء يتركون مدارسهم لمواجهة الفقر، لأن حقوق ذويهم كانت حبرًا على ورق”.
ويضيف أن النقابة تحاول كسر هذا الجمود بـ“أدوات ضغط متدرجة تبدأ بالمذكرات والمخاطبات الرسمية، ولا تنتهي بالتظاهرات السلمية وحملات التوعية الميدانية والإعلامية”، مشيراً إلى أن الاتحاد يسعى “لبناء تحالف نقابي مدني دولي مع منظمات العمل العالمية لتقوية الموقف أمام السلطات، وضمان الاستناد إلى المعايير الدولية في حماية حقوق العمال”.
لكنّ المشكلة أعمق من ذلك. فحتى الوعي النقابي، كما يقول نعمة، “ما زال ضعيفاً، لأن أغلب العمال لا يعرفون ما يحق لهم بموجب القانون. الجهل بالقانون لا يقلّ ضرراً عن غيابه”.
وفي خلاصة كلامه، تبدو الرسالة واضحة: الحقوق لا تُمنح، بل تُستعاد بالضغط والمطالبة المستمرة.
*ثغرات
في المقابل، يعترف المتحدث الرسمي باسم وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، حسن خوام، بوجود ثغرات كبيرة، لكنه يؤكد أن الوزارة تعمل ضمن الممكن. ويقول: “حتى الآن سجلنا أكثر من (700) ألف عامل ضمن نظام الضمان الاجتماعي، لكننا نواجه قيوداً لوجستية بسبب محدودية عدد المفتشين الميدانيين وانتشار سوق العمل في مختلف المحافظات”.
ثم يضيف جملة تحمل واقعية مرّة: “لدينا قوانين جيدة، لكن التنفيذ يحتاج إلى موارد بشرية وتقنية لا تتناسب مع حجم سوق العمل في العراق”.
ورغم ذلك، تحاول الوزارة الوصول إلى العمال الذين يُجبرون على التواطؤ مع أصحاب العمل بعدم التسجيل. فهناك منصة إلكترونية تُدعى “مِهَن”، يمكن من خلالها رفع الشكاوى، إلى جانب الرقم المجاني (444) المخصص للتبليغ عن التجاوزات.
ولأن الثقافة القانونية لا تصل بسهولة إلى الفئات الشعبية، فقد لجأت الوزارة إلى أساليب غير تقليدية في التوعية. يقول خوام بابتسامة خفيفة: “نظمنا بطولة كروية في إحدى المناطق الشعبية ببغداد، واستخدمنا التعليق الرياضي لتوضيح أهمية الضمان الاجتماعي وحقوق العمال، فوجدنا تفاعلاً كبيراً من الجمهور”.
قد تبدو الطريقة غريبة، لكنها تعبّر عن أزمة حقيقية: الناس لا تعرف ما هو الضمان، لأنها لم تختبره يوماً في حياتها.
وتستعد الوزارة، كما يقول خوام، “لإطلاق حملات توعوية في الكليات والجامعات لتعريف الطلبة بحقوقهم قبل دخولهم سوق العمل، كي لا تتكرر الحلقة ذاتها”.
أما آليات التسجيل، فيشرحها ببساطة: “لدينا فرعان في نظام الضمان، الأول للقطاع المنظم، يدفع العامل فيه 5% من راتبه، وصاحب العمل 12%، والحكومة 8%، لتصل النسبة الكلية إلى 25% مخصصة للتقاعد والتأمين.
أما الفرع الثاني فهو الضمان الاختياري للعاملين في القطاع غير المنظم كالحلاقين والسواق والبائعين المتجولين، حيث يدفع المشترك 5% من دخله، وتتحمل الحكومة 15% دعماً له.”
ويضيف أن التسجيل متاح لكل عراقي بين (15 و50) سنة، شريطة ألا يجمع بين راتب تقاعدي آخر والاشتراك الخاص.
*رؤية قانونية
من الناحية القانونية، يرى الخبير أمير الدعمي أن القانون “يمثل خطوة جوهرية نحو بناء نظام حماية شامل يغطي جميع فئات العمال، بما في ذلك العاملين لحسابهم الخاص”.
ويشرح: أن القانون يتضمن مزايا لم تكن موجودة سابقاً مثل “إعانات الأمومة، التأمين ضد البطالة، وتحسين شروط التقاعد من حيث العمر وسنوات الخدمة”.
ويؤكد الدعمي أن الغاية الأعمق من هذا القانون ليست فقط حماية العامل، بل “تحقيق المساواة بين القطاعين العام والخاص وتقليل الفجوة الاجتماعية من خلال ربط الحقوق بالإنتاج، وضمان العدالة في نهاية الخدمة”.
*شبكة امان للمهمشين
أما الخبير الاقتصادي جليل اللامي، فينظر إلى الموضوع من زاوية أوسع. يقول إن تطبيق القانون “يوفر شبكة أمان اجتماعي للفئات المهمشة، ويدعم استقرار السوق المحلي عبر زيادة القدرة الشرائية للمواطنين ورفع الطلب على السلع والخدمات، ما يشكل دافعاً للنمو الاقتصادي”.
لكنّه يشير بوضوح إلى أن ضعف التطبيق العملي “مرتبط بالاعتماد المفرط على النفط”، موضحاً أن “الاقتصاد العراقي يعتمد بنسبة تفوق 90% على عائدات النفط، وهذا يجعل الحكومة أقل ميلاً للاستثمار في برامج الضمان الاجتماعي التي تُعتبر طويلة الأمد في العائد المالي”.
ويضيف اللامي أن المشكلة ليست في القانون بحد ذاته، بل في “غياب الإرادة التنفيذية، والعجز المالي، وغياب الرقابة الفاعلة”.
ويرى أن “تخصيص ميزانيات ضخمة لن يفيد ما لم تُقرن بآليات شفافة تضمن وصول الحقوق إلى العمال الفعليين، لا إلى السجلات الورقية”.
ويختم تحليله بجملة تلخّص المأساة: “من دون حماية العامل، لا يمكن بناء اقتصاد، ومن دون اقتصادٍ حقيقي، لا يمكن لأي قانون أن يعيش.”
وبينما يدور الجدل بين النقابات والوزارة والخبراء، تبقى الحقيقة الأكبر ماثلة في عيون أولئك الذين يكدّون بصمت: العراق يعيش مفارقة مريرة، بلد غني بالثروات، فقير في العدالة الاجتماعية.
القانون موجود، والوعود متكررة، لكن الغالبية الساحقة من العمال ما زالت خارج المظلة. في كل مرة تُطرح فيها قضية الضمان الاجتماعي، تُفتح ملفات الأرقام والنسب، لكن لا أحد يروي حكايات أولئك الذين فقدوا أعمارهم تحت آلات المصانع، أو في مشاريع البناء، دون أن تُسجّل أسماؤهم في أي دفتر رسمي.
“الضمان الاجتماعي”، يقول أحد عمال البناء في حي الشعلة، “يشبه الحلم… نسمع به ولا نراه”. ذلك الحلم، كما يبدو، سيبقى بعيداً ما لم يتحول القانون إلى واقع يومي، وما لم يدرك صانع القرار أن حماية العامل ليست منّة، بل أساس كل استقرار.
ففي النهاية، ليس الأمر مجرد تشريع مالي أو نسبة تُقتطع من الراتب، بل هو مشروع وطني لإنقاذ كرامة الإنسان العامل.
