المتقاعدون بين أنياب الفساد: كيف تحوّلت هيئة التقاعد إلى ساحة ابتزاز يومي وشبكات تنهب أرزاق الضعفاء؟
انفوبلس/..
في ردهة ضيقة تغصُّ بالوجوه المتعبة والطوابير المتشابكة، يجلس محمد عبود الكرادي على كرسي حديدي مهترئ، يحتضن ملفه الأصفر كما يحتضن أبٌ طفله المريض. يحدّق في ساعة الحائط التي لا تتحرك عقاربها منذ أشهر، وكأنها تعكس حالته هو نفسه: متجمد، عالق في انتظارٍ لا ينتهي. أمامه موظف شاحب الملامح، يمد يده من تحت الطاولة بهدوء، وكأنها حركة روتينية. بصوتٍ خافت يقول: “حرك إيدك… وتمر المعاملة”.
تلك العبارة التي صارت اليوم كلمة السر داخل أروقة هيئة التقاعد الوطنية، ليست مجرد جملة عابرة، بل مفتاح أسود يفتح أبوابًا من الفساد والابتزاز والمساومات، تمتد من أصغر موظف إلى شبكات منظمة اخترقت النظام الإلكتروني نفسه. هذه الحكاية ليست رواية خيالية، بل فصل آخر من فصول الانهيار الإداري الذي يطحن الطبقة الأضعف في العراق: المتقاعدين.
“سرقة الفروقات”.. الجرح الأعمق
أعلنت هيئة النزاهة، في بيان رسمي قبل أيام، عن تفكيك شبكة فساد اخترقت نظام صرف الفروقات التقاعدية في محافظة كركوك، واستولت على مبالغ كبيرة من مستحقات المتقاعدين. لم يكن هذا الخبر صادمًا لمن ينتظر في ردهات الهيئة، لأنهم يعرفون مسبقًا أن الفساد هنا ليس خبراً عاجلاً بل واقع يومي.
الشبكة استغلت ثغرات في النظام الإلكتروني، حولت الفروقات إلى حسابات وهمية، ثم جرى سحبها عبر وسطاء ومحامين وموظفين. حجم السرقة لم يُعلن بشكل نهائي، لكن المعلومات تشير إلى مبالغ تجاوزت الملايين خلال السنوات الماضية، في تكرارٍ مريب يشبه إلى حد كبير ما عُرف بـ “سرقة القرن”.
وبينما كانت الدولة تتباهى بـ “التحول الإلكتروني” في المعاملات الإدارية، فإن الفساد، كما قال أحد المتقاعدين بتهكم، “هو أيضاً تحول إلكترونياً”. فالأيدي التي كانت تمتد تحت الطاولات أصبحت تمتد من خلف الشاشات.
شهادات من قلب الطابور
لمعرفة ما يحدث داخل هيئة التقاعد لا تحتاج إلى تقرير رقابي معقد، يكفي أن تجلس ساعة واحدة بين المتقاعدين. هناك تسمع قصصًا تشبه بعضها إلى حد التطابق.
محمد عبود الكرادي، وهو متقاعد منذ 2011، يقول “المتقاعد هو الحلقة الأضعف في هذه الدوامة. كل موظف عنده طريقة للابتزاز… واحد يطلب فلوس، الثاني يماطل بالمعاملة، والثالث يقولك راجع بعد أسبوع. لكن إذا حرّكت إيدك تمشي معاملتك بنفس اليوم".
أما لقاء حسين، وهي متقاعدة في الستين من عمرها، فقد كتبت في مدونة شخصية: “إي والله… إذا تكله للموظف دققلي المعاملة يكلك حرك إيدك. يعني لازم واسطة قوية أو تدفع حتى تمشي المعاملة. إحنا ناس على باب الله، تعبانين، ويستغلون ضعفنا.”
في ركن آخر، يجلس أبو أحمد آل سلمان، وهو متقاعد عسكري، يتحدث بوجه غاضب: “الفساد ما صاير صدفة… هذا شغل منظم. أكو شبكات بين محامين وموظفين، ينسقون على الواتساب. إذا ما عندك محامي واصل، تظل معاملتك واقفة بالأشهر.”
الفساد لا يموت بل يتطور
بحسب تحقيقات هيئة النزاهة، فإن الشبكة التي تم تفكيكها في كركوك ليست الأولى. فقد سبق أن جرى ضبط شبكات أخرى في بغداد والموصل والبصرة، اعتمدت الأسلوب نفسه تقريباً: اختراق النظام الإلكتروني، إصدار فروقات غير حقيقية، تمريرها عبر حسابات وسيطة، ثم سحب الأموال وتقاسمها.
اللافت أن هذه الشبكات — بحسب مسؤولين مطلعين — تعمل تحت غطاء سياسي يوفر لها الحماية. بعض المتورطين في القضايا السابقة أُفرج عنهم بعد تدخل شخصيات متنفذة، وآخرون صدرت بحقهم أوامر عفو مثيرة للجدل.
باقر جبر الزبيدي، زعيم تحالف مستقبل العراق، قال في تصريح صريح: “الفساد داخل هيئة التقاعد يشبه إلى حد كبير ما جرى في قضية سرقة القرن. هناك شبكات منظمة تحت حماية شخصيات سياسية، تسعى إلى طمس الأدلة أو تخفيف العقوبات، بل وتضغط لإصدار قوانين عفو.”
ويضيف الزبيدي: “المستفيد الحقيقي من الرواتب التقاعدية هم الناس البسطاء، لكنهم اليوم ضحايا للابتزاز. رغم أن النظام أصبح إلكترونياً، إلا أن الفساد تطور هو الآخر. يجب تدقيق ثروات بعض الموظفين وإبعاد رؤوس الفساد من داخل الهيئة.”
من الواسطة إلى “الواتساب”
لم يعد الفساد في هيئة التقاعد يقتصر على المساومة المباشرة داخل المكاتب. فبحسب شهادات متقاعدين، تحولت تطبيقات التواصل مثل واتساب إلى منصات خفية لإدارة عمليات التحايل.
يقول أحد المتقاعدين مفضلاً عدم الكشف عن اسمه: “المحامي يتواصل وياك على الواتساب. يكلك إذا تريد معاملتك تمشي بسرعة، ادزلي هالملفات وادفع هالرسوم. وإذا رفضت، يختفي المحامي وتبقى معاملتك معلقة.”
ويوضح: “هم مو شخص واحد… شبكة كاملة، من موظف الاستعلامات إلى المدير الفرعي، مروراً بمحامٍ أو وسيط، كلهم يشتغلون كفريق.”
الفقر والرواتب المجمدة
أبو أحمد يعلق بحسرة: “أنا خدمتي 30 سنة، وآخذ راتب ما يكفي أسبوع. وبعد كل هذا، لازم أدفع حتى أمشي معاملة بسيطة؟ أي عدالة هاي؟”
دولة ضعيفة… وشبكات قوية
الفساد في هيئة التقاعد ليس وليد اللحظة. إنه جزء من بنية أكبر تشبه “الجسم الطفيلي” الذي ينمو على ضعف الدولة. فكلما ضعفت الرقابة، تمددت هذه الشبكات أكثر.
يقول خبير إداري متقاعد كان يشغل منصباً رقابياً في الدولة: “المشكلة ليست فقط في موظف فاسد. المشكلة في منظومة حماية تحيط به. أنت لا تستطيع محاسبته لأنه محمي من حزب أو نائب أو جهة نافذة.”
ويضيف: “بعض هذه الشبكات تمتلك نفوذاً أقوى من مديري الفروع أنفسهم. هناك من يحميهم من المحاسبة، وهناك من يغض الطرف مقابل حصص مالية.”
ما بعد “حرك إيدك”
إن أخطر ما في هذه القضية ليس حجم الأموال المسروقة فحسب، بل الانكسار النفسي الذي يُصيب المتقاعدين، وهم من أفنوا أعمارهم في خدمة الدولة. أن تقف عجوز في السبعين من عمرها لتتوسل موظفاً شاباً مقابل حقّها… فهذه ليست مجرد قضية فساد إداري، بل انهيار أخلاقي للدولة نفسها.
حين تتحول المعاملة التقاعدية — التي يفترض أن تكون حقاً مضموناً — إلى سلعة في سوق سوداء، يديرها موظفون ومحامون وسماسرة، فإننا أمام نموذج صارخ لكيفية تغوّل الفساد على حساب الضعفاء.
في نهاية اليوم، ينهض محمد عبود من كرسيه الحديدي بعد أن أنهى يومه الثالث في الطابور. ينفض غبار الانتظار عن سرواله القديم، ينظر إلى السماء ويقول: “إحنا مو محتاجين صدقة… نريد حقنا”. ثم يعود غداً، ليواجه العبارة ذاتها من جديد: “حرك إيدك…”.
