الهجرة برزت كبديل.. شباب كردستان بين حلم الزواج وكابوس الأسعار: حياة مؤجّلة تحت عباءة الأزمات والبطالة والهجرة
انفوبلس/..
تشهد مجتمعات إقليم كردستان العراق تحولاً اجتماعياً عميقاً في السنوات الأخيرة، يتمثل في تراجع معدلات الزواج وازدياد حالات العزوبة بين الشباب والفتيات. لم يُعد الزواج، الذي كان يُعدّ خطوة طبيعية في حياة الإنسان الكردي وركيزة أساسية في تكوين المجتمع، أمراً ميسوراً كما في السابق. فبين تدهور الأوضاع الاقتصادية، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتفاقم البطالة، وتزايد المغالاة في المهور، تقف عقبات كثيرة تحول دون تحقيق حلم الاستقرار الأسري، وتفتح الباب أمام أزمات اجتماعية ونفسية متصاعدة.
تراجع مقلق في نسب الزواج
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن نسب الزواج في إقليم كردستان شهدت انخفاضاً ملحوظاً خلال الأعوام القليلة الماضية. وبحسب باحثين اجتماعيين، فإن معدلات الزواج تراجعت بنحو 20% مقارنة بالأعوام السابقة، وهو رقم يعكس حجم الأزمة التي يعيشها الشباب في ظل ظروف معيشية قاسية. ويُضاف إلى ذلك أن الإحصاءات العراقية العامة تُظهر أن نسبة العزاب بلغت أكثر من 41%، وهي نسبة تُنذر بتغيرات ديموغرافية واجتماعية واسعة المدى.
يؤكد الباحث في الشأن الاجتماعي سيروان كمال أن الظروف الاقتصادية المتدهورة، التي عصفت بالإقليم منذ سنوات، كانت السبب الرئيس وراء هذا التراجع. يقول كمال: "الشباب اليوم لا يفكرون بالزواج كما كان الحال قبل عقد من الزمن. ارتفاع الأسعار، وتدهور قيمة العملة، وغلاء المهور، وغياب فرص العمل، جعلت الزواج بالنسبة لكثيرين حلماً بعيد المنال".
الاقتصاد أولاً.. ثم كل شيء آخر
العامل الاقتصادي يبرز كالقاسم المشترك بين مختلف الأسباب. فالشباب الذين لا يمتلكون دخلاً ثابتاً أو عملاً مستقراً لا يستطيعون تحمّل تكاليف الزواج المرتفعة. فالمهر في بعض مناطق كردستان قد يصل إلى نصف كيلوغرام من الذهب، يضاف إليه ما يتطلبه العرس من مصاريف ضخمة، من القاعات والمآدب والملابس والمظاهر الاجتماعية التي تحولت إلى معيار للتفاخر.
لكن الأزمة الاقتصادية لا تتعلق فقط بالمهور أو أسعار الذهب، بل تمتد إلى بنية الاقتصاد الكردي نفسه. فمنذ سنوات، يعاني الإقليم من أزمة مالية خانقة بسبب الخلافات المستمرة مع الحكومة الاتحادية في بغداد بشأن ملف النفط والإيرادات. وعلى الرغم من الاتفاقات الأخيرة التي سمحت باستئناف تصدير نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي، فإن الأزمة لم تُحل جذرياً. فالموظفون لا يزالون يعانون من تأخر الرواتب، والقطاع الخاص محدود القدرة على استيعاب البطالة المتزايدة، ما يجعل الشاب الكردي محاصراً بين قلة الدخل وارتفاع الأسعار.
وتوضح المحامية والناشطة هيلين عمر أن هذه الأوضاع خلقت دائرة مغلقة من الإحباط. تقول: "لا يمكن للشباب أن يتزوجوا دون دخل كافٍ، ولا يمكنهم تحسين أوضاعهم في ظل قلة الفرص. حتى الذين يعملون في القطاع الخاص يتقاضون أجوراً منخفضة لا تتناسب مع تكاليف الحياة اليومية. هذا ما يجعل فكرة الزواج عبئاً نفسياً ومادياً في آن واحد".
العادات والتقاليد تزيد الطين بلّة
إلى جانب الأزمات الاقتصادية، تواجه فئة الشباب تحديات ثقافية واجتماعية. فالكثير من العوائل الكردية ما زالت تتمسك بعادات الزواج التقليدية التي تتطلب مهرًا مرتفعًا واحتفالات فخمة. ويعتبر الذهب عنصراً أساسياً في المهر، ليس فقط كرمز للوجاهة الاجتماعية، بل كضمان مالي للعروس. لكن مع الارتفاع الكبير في أسعار الذهب – الذي وصل سعر المثقال منه إلى نحو مليون دينار عراقي – أصبحت هذه العادة عبئاً هائلاً على العائلات محدودة الدخل.
تقول الناشطة هيلين عمر: "نحن بحاجة إلى إعادة نظر في ثقافة المهر والاحتفال، لأن الزواج لم يعد وسيلة استقرار، بل أصبح معركة اقتصادية. كثير من الأهالي لا يراعون ظروف الشباب، ويصرون على ممارسات باهظة التكاليف، وكأنهم في سباق للمظاهر، بينما يتجاهلون أن الزواج في جوهره شراكة ومسؤولية وليس استعراضاً اجتماعياً".
الهجرة كبديل عن الزواج
تزايدت في السنوات الأخيرة رغبة الشباب الكرد في الهجرة إلى الخارج، خصوصاً إلى أوروبا، أملاً في تحسين ظروفهم المعيشية. كثير منهم يرون أن بناء مستقبل آمن مادياً في الخارج يسبق التفكير في الزواج. فبدلاً من الاقتراض أو الدخول في التزامات مالية صعبة داخل الإقليم، يختار البعض الهجرة سبيلاً للهروب من الواقع.
يقول الشاب سالار أحمد من مدينة السليمانية: "كيف يمكنني أن أتزوج وأنا أعمل في وظيفة خاصة بدخل لا يتجاوز 300 دولار شهرياً؟ الإيجار وحده يستهلك نصف الراتب، والذهب أصبح خيالاً. أفكر بالهجرة إلى أوروبا، على الأقل هناك يمكنني أن أبدأ من جديد، ثم أفكر بالزواج لاحقاً".
هذه الظاهرة لم تعد فردية، بل أصبحت توجهاً عاماً بين جيل كامل من الشباب. وتشير تقارير محلية إلى أن نسبة كبيرة من المتقدمين بطلبات الهجرة في السنوات الأخيرة هم من الفئة العمرية بين 20 و35 عاماً، أي الفئة الأكثر ارتباطاً بمعدلات الزواج والإنجاب.
المرأة الكردية بين الانتظار وتبدل القيم
انعكست أزمة الزواج أيضاً على النساء في كردستان، حيث ارتفع عدد الفتيات غير المتزوجات بشكل ملحوظ. وتشير ناشطات إلى أن السبب لا يقتصر على عزوف الشباب، بل يشمل أيضاً تغير النظرة إلى الزواج ذاته. فالكثير من النساء أصبحن أكثر وعياً بحقوقهن وأولوياتهن، ويفضلن التعليم والعمل على الزواج في ظروف غير مستقرة.
تقول الباحثة الاجتماعية روجين محمد إن التغيرات الاجتماعية والثقافية لعبت دوراً إضافياً في تأخير الزواج، موضحة: "لم يعد الزواج هدفاً أساسياً لدى بعض الفتيات، خاصة مع زيادة فرص التعليم والانفتاح على العالم. لكن هذا لا يلغي القلق الاجتماعي الذي تعيشه الكثير من العائلات، إذ ما زال يُنظر إلى تأخر الزواج كأمر سلبي أو غير مألوف".
أبعاد نفسية واجتماعية للأزمة
تنامي ظاهرة العزوبة لا يقتصر أثره على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد إلى البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع. فالكثير من الشباب يعانون من الإحباط والشعور بالعجز أمام متطلبات الحياة، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان إلى اضطرابات نفسية أو حتى سلوكيات غير صحية. كما أن تأخر سن الزواج يقلل من فرص الاستقرار الأسري والإنجاب، ما قد يؤثر على التركيبة السكانية مستقبلاً.
الخبير النفسي نوزاد شريف يرى أن المشكلة تجاوزت الجانب المادي، قائلاً: "الشباب اليوم يعيشون أزمة هوية وهدف. عندما يشعر الشاب أنه غير قادر على تحقيق أبسط أحلامه، مثل الزواج أو تكوين أسرة، يفقد دافعه للحياة، وهذا ينعكس على المجتمع كله في شكل توتر اجتماعي متزايد".
الحلول المقترحة.. هل من أمل؟
في ظل هذه التحديات، يطرح الخبراء جملة من المقترحات للتخفيف من حدة الأزمة. من بين أبرزها إطلاق برامج حكومية لدعم الزواج، عبر منح مالية أو قروض ميسّرة للشباب المقبلين على الزواج، إضافة إلى توعية مجتمعية لتعديل ثقافة المهر والاحتفالات المكلفة. كما يشدد البعض على ضرورة تحسين البنية الاقتصادية من خلال خلق فرص عمل حقيقية للشباب.
وتقترح الناشطة هيلين عمر أيضاً إشراك رجال الدين والمؤسسات التعليمية في حملات توعية واسعة لتشجيع الأسر على تبني ممارسات واقعية أكثر، وتخفيف الضغوط الاجتماعية على الشباب. وتضيف: "الزواج ليس صفقة مالية، بل علاقة إنسانية تقوم على التفاهم والمشاركة. ما لم ندرك ذلك، سنخسر قيمنا الأسرية ومتانة مجتمعنا".
وما بين الأزمات المالية المتلاحقة، والبطالة، وتكاليف المعيشة المتزايدة، والمظاهر الاجتماعية الباذخة، يجد الشباب الكرد أنفسهم اليوم أمام مفترق طرق صعب. الزواج الذي كان حلماً طبيعياً بات عبئاً ثقيلاً، والهجرة صارت مخرجاً مؤقتاً من واقع لا يرحم. وبينما تبحث الحكومات والمجتمع عن حلول اقتصادية، يبدو أن الأزمة الأعمق هي في القيم والتوقعات الاجتماعية التي لم تتغير رغم تبدّل الظروف.
