قدّاس يتحوّل إلى ساحة اشتباك سياسي: "التطبيع" يفجّر جدلاً نارياً بين الكنيسة والحكومة والقوى السياسية في العراق
انفوبلس/ تقرير
لم يكن قداس أعياد ميلاد المسيح في كنيسة مار يوسف للكلدان الكاثوليك في بغداد، مساء الأربعاء، مناسبة دينية اعتيادية تُختَتم بتراتيل السلام والدعاء، بل تحوّل إلى لحظة سياسية شديدة الحساسية، فجّرت واحداً من أكثر الملفات خطورة وجدلاً في العراق ملف "التطبيع".
كلمات مقتضبة ألقاها بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم، الكاردينال لويس روفائيل ساكو، كانت كافية لإشعال عاصفة سياسية وإعلامية، استدعت رداً مباشراً من رئيس الوزراء المنتهية ولايته محمد شياع السوداني، وأعقبتها بيانات تحذير وتصعيد من قوى سياسية، في مقدمتها حركة بابليون.
قدّاس الميلاد.. وخطاب خارج التوقّعات
في كلمته التي ألقاها أمام الحضور، وبينهم رئيس مجلس الوزراء، دعا الكاردينال ساكو الحكومة العراقية الجديدة إلى أن “يكون التطبيع في العراق ومع العراق”، مستخدماً توصيفاً لغوياً وفكرياً بدا للبعض بعيداً عن المعنى السياسي المتداول لكلمة التطبيع.
وقال ساكو: “هناك كلام عن التطبيع، وأتمنى من الحكومة الجديدة أن يكون التطبيع في العراق ومع العراق بلد الأنبياء، كما أن التلمود كُتب في بابل، فالعالم يجب أن يأتي إلى العراق وليس إلى مكان آخر”.
“غير موجودة في قاموس العراق”
لم يتأخر الرد الرسمي. ففي الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني خلال القداس نفسه، بدا واضحاً أنه تعمّد الرد على ما ورد في خطاب ساكو، نافياً بشكل قاطع أي التباس في موقف الدولة.
وأكد السوداني أن “كلمة التطبيع غير موجودة في قاموس العراق، لأنها ارتبطت بكيان محتل استباح الأرض والإنسان”، مشدداً على أن العراق لا يحتاج إلى تطبيع، بل إلى “الأخوّة والمحبة والتعايش”، وأن الالتزام الشرعي والقانوني والدستوري هو ما يحكم علاقاته ومواقفه.
بابليون تدخل على الخط: تحذير وطلب توضيح
الجدل لم يتوقف عند هذا الحد. فبعد ساعات، أصدرت حركة بابليون، بزعامة ريان الكلداني، بياناً شديد اللهجة، عبّرت فيه عن “قلق بالغ” مما تم تداوله إعلامياً من تصريحات منسوبة إلى ساكو.
واعتبرت الحركة أن تلك التصريحات فُسّرت على أنها ترويج للتطبيع مع الكيان الصهيوني والانضمام إلى الاتفاقية الإبراهيمية، بل وطرح العراق كنقطة انطلاق لهذا المشروع، وهو ما وصفته بأنه تعارض صريح مع قانون تجريم التطبيع ومع الثوابت الوطنية والإجماع الشعبي.
ودعت الحركة البطريرك ساكو إلى الخروج ببيان عاجل وصريح يوضح حقيقة ما صدر عنه، ويضع الرأي العام أمام تفسير دقيق بعيداً عن أي التباس أو تأويل، مؤكدة أن أي موقف يُفهم منه دعم أو ترويج للتطبيع لا يمثل المسيحيين في العراق ولا يعبّر عن تاريخهم الوطني.
كذلك، أكدت وزيرة الهجرة والمهجرين إيفان فائق جابرو، رفضها القاطع “لأي تصريحات أو مواقف تدعو إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني أو تبرّره بأي شكل من الأشكال”.
وقالت جابرو – وهي مسيحية – إن “مثل هذه الآراء لا تمثّل موقف الشعب العراقي ولا تعبّر عن إرادته الحقيقية، بجميع أطيافه ومكوّناته الدينية والقومية”.
وأضافت في صحفتها على الفيسبوك أن “العراق، حكومةً وشعبا، كان ولا يزال ثابتا على موقفه الداعم للقضية الفلسطينية العادلة، والرافض لكل أشكال الاحتلال والعدوان، انطلاقا من مبادئه الوطنية والإنسانية، ومن التزامه التاريخي بقضايا الحق والعدالة”.
المسيحيون.. بين الاتهام والدفاع عن الهوية الوطنية
أحد أخطر أبعاد هذا الجدل أنه وضع المكوّن المسيحي، دون إرادته، في قلب معركة سياسية شديدة الحساسية.
حركة بابليون شددت في بيانها على أن المسيحيين كانوا وما زالوا جزءاً أصيلاً من الموقف العراقي الرافض للتطبيع، وأنهم ملتزمون بسيادة الدولة واحترام قوانينها، في محاولة واضحة لنزع أي صفة تمثيلية عن تصريحات ساكو إذا ما فُسّرت سياسياً.
خيانة لدماء الشهداء
من جهته، قال النائب في البرلمان الخامس حسن سالم، "لويس ساكو ومن ينادي ويوافق على التطبيع فليضع في فمه التراب ويسكت فالتطبيع في العراق حرام شرعا وقانونا وخيانه لدماء الشهداء والعراق وواجب الحكومة ان تلجمه وتحاسبه وفقا لقانون تجريم التطبيع".
فيما قال النائب بالدورة النيابية الخامسة، مصطفى سند: "لويس ساكو، سنقدم عليك إخبار للمحكمة يوم الأحدونتمنى أن يكون تصريحك غير مقصود".
"ليس التطبيع مع اسرائيل"
اما الصحفي العراقي منتظر ناصر، فأكد ان "ساكو لم يكن يقصد التطبيع مع اسرائيل"، وقال في منشور على فيسبوك: "الأب ساكو لم يدع للتطبيع بل كان يستعير المفردة للدعوة الى نبذ الخلافات وعودة اللحمة الاجتماعية بين العراقيين والسوداني لم يرد عليه بل كان يعلق على المفردة الحساسة".
وهو ما اكده ساكو لاحقا في بيان صادر عن إعلام البطريركية الكلدانية، جاء في نصه: "تداولت مواقع التواصل الاجتماعي تصريحات غبطة البطريرك ساكو في موعظته مساء اليوم اثناء القداس الاحتفالي".
واضاف البيان، "البطريرك ساكو اكد ان الكل يجب ان يطبع مع العراق وليس مع بلد غيره، لأن ابراهيم عراقي والعراق بلد الديانات والعديد من الانبياء".
واتم "البطريرك شرح ذلك في مقابلته تلفزيونية، حيث قال ان توجه الدول نحو العراق بلد الحضارات وبلد ابراهيم سوف يشجع السياحة".
قانون تجريم التطبيع.. السقف الأعلى
في منتصف عام 2022، أقرّ مجلس النواب العراقي قانون “تجريم التطبيع” مع إسرائيل، وهو من أكثر القوانين تشدداً في المنطقة.
القانون ينص على عقوبات تصل إلى السجن المؤبد أو المؤقت، ويهدف إلى منع إقامة أي شكل من أشكال العلاقات الدبلوماسية أو السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية مع “الكيان الصهيوني المحتل”.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تنص المادة 201 من قانون العقوبات العراقي على عقوبة الإعدام بحق كل من يروّج لمبادئ الصهيونية أو يساعدها مادياً أو أدبياً أو يعمل بأي شكل لتحقيق أغراضها.
ضمن هذا السياق، يصبح أي استخدام لكلمة “التطبيع”، حتى لو كان لغوياً أو مجازياً، مادة قابلة للاشتعال السياسي والقانوني.
العراق وموقفه الثابت
العراق، رسمياً وشعبياً، لا يقيم أي علاقات مع إسرائيل، وترفض الحكومة وأغلبية القوى السياسية التطبيع معها.
ويستند هذا الرفض إلى اعتبارات تاريخية وسياسية وأخلاقية، في مقدمتها استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ عربية في فلسطين وسوريا ولبنان منذ عام 1967، ورفض إسرائيل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
وفي مقابل ست دول عربية اختارت مسار التطبيع العلني، ما يزال العراق يتمسك بموقفه التقليدي، بل ويذهب أبعد من ذلك بتشريعات قانونية تمنع حتى النقاش العلني في هذا الاتجاه.
إلى أين يتجه الجدل؟
في المحصلة، قداس الميلاد انتهى، لكن الجدل حول “التطبيع” لم ينتهِ بعد، ليؤكد مرة أخرى أن السياسة في العراق قادرة على اقتحام حتى أكثر المناسبات قدسية، وأن ملف إسرائيل سيبقى من أكثر الملفات اشتعالاً مهما تغيّرت السياقات أو النوايا.

