أزمة تأخر صرف مستحقات الموظفين تعود بقوة لتكشف عجز الموازنة.. أزمات متراكمة وارتباك حكومي
انفوبلس/..
تعود أزمة تأخر صرف رواتب موظفي الدولة إلى واجهة النقاش في العراق مجدداً، بعدما تكررت حالات التأخير خلال الأشهر الماضية، لتتحول من مشكلة إدارية مؤقتة إلى كابوس متواصل يلاحق ملايين العراقيين الذين يعتمدون على هذه الرواتب كمصدر رزق وحيد. فالموظفون، الذين كانوا يتوقعون أن تُصرف مرتباتهم في المواعيد المحددة، وجدوا أنفسهم اليوم عالقين في حلقة مفرغة من الوعود الحكومية التي لا تنفّذ، بينما تتزايد تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق، وتثقل الأعباء الاقتصادية كاهل العائلات العراقية التي تواجه ضغوطاً يومية على موائدها وفواتيرها والتزاماتها الشهرية.
غضب الموظفين وتفاقم المعاناة
في دوائر ووزارات مختلفة، بات صوت الموظفين الغاضبين أكثر وضوحاً. أحمد الجبوري، موظف في الشركة العامة للسكك الحديد العراقية التابعة لوزارة النقل، اختصر المشهد بقوله: “لم نستلم حتى اليوم الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2025 رواتب شهر أيلول، علماً أن موعد الصرف المعتاد يكون في الثالث والعشرين من كل شهر. هذا التأخير المستمر زاد من معاناة الموظفين وأسرهم، ولا أحد يجيبنا بوضوح عن أسباب ذلك”.
الجبوري كشف أيضاً عن أن الموظفين لم يحصلوا حتى الآن على المخصصات المالية والعلاوات والخدمة العقدية التي أعلنت الحكومة إطلاقها في أكثر من مناسبة. ويضيف بلهجة تعكس الإحباط العام: “كلها بقيت حبراً على ورق.. تصريحات للاستهلاك الإعلامي ليس إلا. وضعنا في الدائرة مأساوي، وتأخر الرواتب زاد الطين بلة”.
هذا الغضب لا يقتصر على موظفي السكك وحدهم، بل يمتد إلى عشرات الدوائر الأخرى التي تعاني من المشكلة ذاتها، حتى غدت أزمة الرواتب أشبه بـ”صداع مزمن” للحكومة والمواطن على حد سواء.
البرلمان يدخل على الخط: مخاوف من العجز
المخاوف من تفاقم هذه الأزمة لم تتوقف عند حدود الشارع، بل وصلت إلى أروقة البرلمان. النائب جواد اليساري عبّر بوضوح عن القلق قائلاً: “هناك قلق برلماني وشعبي إزاء ما أثير مؤخراً بشأن احتمال تأخر صرف رواتب موظفي الدولة، نتيجة ارتفاع نسبة العجز في الموازنة العامة، خاصة وأن رواتب الموظفين والمتقاعدين تمثل مصدر الدخل الأساس لشريحة واسعة من المواطنين. أي تأخير في صرفها ستكون له انعكاسات سلبية مباشرة على الوضع المعيشي والاستقرار الاجتماعي”.
هذا التصريح يعكس حجم القلق داخل المؤسسة التشريعية من أن تتحول أزمة تأخر الرواتب إلى أزمة اجتماعية أوسع، خصوصاً أن ملايين العراقيين يعيشون على دخل شهري ثابت بالكاد يغطي متطلباتهم، وأي تأخير أو اضطراب فيه يترك آثاراً كارثية على حياتهم.
الاقتصاد المحلي تحت الضغط
يرى اقتصاديون أن الرواتب في العراق ليست مجرد استحقاقات مالية لموظفين، بل هي العمود الفقري لدورة الاقتصاد المحلي. فجزء كبير من حركة الأسواق يعتمد على إنفاق الموظفين، والتجار وأصحاب المحال يعتمدون بشكل مباشر على دخولهم الشهرية. أي خلل في مواعيد صرفها يعني بالضرورة كساداً وتراجعاً في المبيعات وحركة الأموال.
التأثير يمتد أبعد من ذلك، إذ إن الرواتب تمثل صمام أمان اجتماعي لملايين الأسر، وغيابها أو تأخرها حتى لبضعة أيام يربك حياة الأسر العراقية، ويزيد من نسب الاقتراض والتداين، فضلاً عن تراجع الثقة بالإدارة المالية للدولة.
الرواتب خط أحمر.. لكن
عضو اللجنة المالية النيابية، معين الكاظمي، حاول طمأنة الموظفين بقوله إن الرواتب ستبقى مؤمنة حتى في حال تراجع أسعار النفط، موضحاً أن الحكومة خصصت نحو 90 تريليون دينار سنوياً لتغطية رواتب الموظفين والمتقاعدين والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية.
الكاظمي أضاف: “العراق يعتمد على تصدير أكثر من 3 ملايين و300 ألف برميل يومياً، وهو ما يوفر الإيرادات الكافية لتغطية الرواتب. انخفاض أسعار النفط سيؤدي إلى عجز كبير في الجوانب الاستثمارية، لاسيما في ما يتعلق بإكمال المشاريع المستمرة، لكنه لن يؤثر بشكل مباشر على الرواتب”، لكنه لم ينفِ أن بعض التأخير قد يحصل نتيجة المناقلات المالية أو الإجراءات البيروقراطية.
هذا التوضيح، وإن بدا مطمئناً من حيث المبدأ، إلا أنه يفتح الباب أمام تساؤلات أكبر: إذا كانت الرواتب مؤمنة فعلاً، فلماذا تتكرر حالات التأخير؟ هل هي مشاكل إدارية أم أزمة سيولة أم مؤشرات على خلل أعمق في إدارة الأموال العامة؟
وعود بلا تنفيذ
ما يفاقم الأزمة أكثر هو الهوة الكبيرة بين وعود الحكومة وواقع الحال. إذ أعلنت الحكومة أكثر من مرة عن إطلاق المخصصات والعلاوات، لكن الموظفين يؤكدون أن تلك القرارات بقيت بلا أثر ملموس. هذا التناقض جعل شريحة واسعة من العراقيين تفقد الثقة بقدرة المؤسسات على الوفاء بالتزاماتها.
أحمد، الموظف الذي تحدث من السكك، عبّر عن ذلك بمرارة قائلاً: “نسمع التصريحات ونقرأ البيانات، لكن حين نذهب إلى المصارف لا نجد شيئاً. الحكومة يجب أن تدرك أننا لا نستطيع الانتظار أكثر، حياتنا مرتبطة بهذه الرواتب”.
بين الموازنة وأسعار النفط
الأزمة مرتبطة أيضاً بتقلب أسعار النفط التي ما تزال تمثل المورد شبه الوحيد للعراق. ورغم أن الأسعار الحالية توفر إيرادات جيدة نسبياً، إلا أن أي انخفاض حاد ينعكس فوراً على الموازنة. وفي ظل عجز يتجاوز عشرات التريليونات، يزداد الخوف من أن تكون الرواتب أول ضحية لمعادلة اقتصادية مختلة.
ومع أن الكاظمي وغيرَه من النواب أكدوا أن الأولوية القصوى تبقى للرواتب، إلا أن الواقع يثبت أن مجرد الحديث عن احتمال تأخرها يكفي لزرع القلق بين الموظفين، وإرباك الأسواق، وإضعاف الثقة بالمستقبل القريب.
ارتباك في الشارع العراقي
على الأرض، يعبّر الشارع العراقي عن ضيق متزايد. في الأسواق، يشتكي أصحاب المحال من تراجع المبيعات في الأيام التي تسبق صرف الرواتب، حيث يتوقف الإنفاق تقريباً بانتظار أن تودَع الأموال في حسابات الموظفين. وفي المنازل، تتأزم الأوضاع الأسرية مع تأخر القدرة على تسديد الديون أو شراء المستلزمات الأساسية.
المشهد يتكرر كل شهر، حتى بات المواطنون يعيشون في دائرة قلق مزمنة: هل ستُصرف الرواتب في موعدها أم ستتأخر؟
مطالب الموظفين: انتظام لا وعود
أمام هذا الواقع، يطالب الموظفون الحكومة باتخاذ إجراءات عاجلة تضمن انتظام صرف الرواتب في مواعيدها المحددة، بعيداً عن التأخيرات التي تحولت إلى روتين قاتل. فالموظف العراقي لم يعد يبحث عن زيادة أو مخصصات إضافية بقدر ما يبحث عن استقرار مالي يتيح له إدارة حياته اليومية بحدها الأدنى.
الموظفون يرون أن انتظام الرواتب سيكون خطوة أساسية لمنح الاستقرار للحياة الاقتصادية والاجتماعية، فيما يبقى التأخير عنواناً لفوضى مالية وإدارية تزيد من فقدان الثقة بين الدولة ومواطنيها.
أزمة ثقة قبل أن تكون أزمة مالية
في المحصلة، تبدو أزمة الرواتب في العراق أكبر من مجرد تأخير إداري. هي أزمة ثقة متراكمة بين المواطن والحكومة، أزمة إدارة في بلد يعتمد على النفط كمورد أوحد، وأزمة اجتماعية تنعكس على استقرار الأسرة والسوق والمجتمع.
ومع أن الأرقام الرسمية تقول إن الرواتب مؤمنة، إلا أن الواقع اليومي للموظف العراقي يقول العكس: كل يوم تأخير يعني يوماً إضافياً من المعاناة، وجرحاً جديداً في جسد العلاقة المرهقة بين الدولة ومواطنيها.
وبين الوعود الحكومية والانتظار المرير للموظفين، تبقى الحقيقة المؤلمة أن رواتب العراقيين، التي يفترض أن تكون خطاً أحمر، أصبحت كرة نار تتقاذفها الموازنات والعجز والوعود غير المنفذة، لتتحول إلى رمز جديد من رموز الأزمات المزمنة التي تثقل كاهل العراق.
