إغلاق الأودية التاريخية يفجّر سيول كركوك ويفضح مافيات الأراضي والتجاوزات العشوائية
سيول بأسباب بشرية
انفوبلس..
لم تكن السيول التي اجتاحت أحياء وقرى في محافظة كركوك حدثاً طبيعياً عابراً، بل نتيجة مباشرة لتراكم تجاوزات عمرانية أغلقت مسارات الأودية التاريخية التي شكّلت لعقود المتنفس الطبيعي لمياه الأمطار.
وبينما غرقت منازل المواطنين، انكشف الدور الخطير لمافيات الأراضي التي ردمت المجاري المائية وباعت أراضيها عشوائياً، ما حوّل موسم الأمطار إلى كارثة إنسانية وأمنية تستدعي قرارات حاسمة.
الأودية المغلقة.. حين يتحول الخلل العمراني إلى كارثة
وأكد محافظ كركوك ريبوار طه أن غرق عدد من المنازل في منطقة شوراو ومناطق أخرى لم يكن سببه غزارة الأمطار وحدها، بل إغلاق مسارات الأودية الطبيعية التي كانت تصرّف مياه السيول القادمة من المناطق المحاذية لإقليم كردستان.
وأوضح أن هذه الأودية أُلغيت فعلياً خلال السنوات العشر الماضية بفعل تجاوزات سكنية عشوائية أُقيمت فوقها، ما تسبب بانسداد الممرات المائية وتحول المياه إلى الأحياء السكنية.
وأشار طه إلى أن المواطن الكركوكي لا يتحمل مسؤولية ما جرى، إذ وقع ضحية لبيع هذه الأراضي من قبل مافيات منظمة، ردمت الأودية وروّجت لها كقطع سكنية، متجاهلة المخاطر البيئية والإنسانية.
وأضاف محافظ كركوك، أن استمرار هذا الواقع كان سيقود إلى كوارث أكبر لو لم تُتخذ إجراءات عاجلة لإعادة فتح تلك المسارات.
مافيات الأراضي في الواجهة
ووضع محافظ كركوك مافيات الأراضي في صلب الأزمة، مؤكداً أن هذه العصابات استغلت حاجة المواطنين للسكن، وباعتهم أراضي غير صالحة للبناء كونها تقع ضمن مجاري سيول تاريخية.
وقال المحافظ، إن هذه المافيات قامت بردم الأودية وطمس معالمها، ما جعل البيوت المقامة عليها عرضة للغرق مع كل موجة أمطار.
وأوضح طه أن الحكومة المحلية قررت عدم التهاون مع هذا الملف، وشكّلت لجنة خاصة تضم القائممقامية والبلدية ودائرتي الماء والمجاري والموارد المائية، إضافة إلى الأجهزة الأمنية، لرفع جميع التجاوزات في أحياء شوراو وبنجة علي شمال كركوك.
وأكد أن الهدف لا يقتصر على إزالة الأبنية، بل محاسبة الجهات التي تسببت بتهديد حياة المواطنين.
قرارات حكومية.. إزالة وتعويض ومشاريع بنى تحتية
وشدد المحافظ على أن إعادة الأودية إلى حالتها الطبيعية تمثل الخيار الوحيد لتفادي تكرار الكارثة، مؤكداً أن الحكومة المحلية ماضية بإزالة الأبنية المقامة على الممرات المائية مع تعويض المتضررين.
كما أعلن عن إدراج مشاريع لبناء جسور وقناطر في المناطق المتأثرة، ورفع أسماء المتضررين إلى رئاسة الوزراء لغرض شمولهم بالتعويضات.
وأضاف أن التجاوزات التي حصلت خلال العقد الأخير غيّرت الخارطة المائية للمحافظة، وأوجدت خطراً دائماً، مؤكداً أنه لن يبقى صامتاً إزاء أي تعدٍّ جديد على الأودية، لأن بقاء الوضع على حاله يعني تعريض حياة الآلاف للخطر مع كل موسم أمطار.
وبالتوازي مع الإجراءات المحلية، أعلن مركز تنسيق الأزمات المشترك في إقليم كردستان انتهاء مرحلة الطوارئ القصوى الخاصة بموجة السيول، مع استمرار توزيع المساعدات والاستعداد لموجات مطرية مقبلة.
وأكدت مديرة المركز سروه رسول أن العائلات المتضررة بدأت بالعودة إلى منازلها، فيما استمرت عمليات الدعم في مناطق عدة من بينها أحياء في كركوك.
معالجة الاختناقات وإعادة فتح المجاري المائية
على الأرض، باشرت قيادة عمليات كركوك بخطة هندسية شاملة لدرء خطر الفيضانات عن مركز المحافظة والقرى التابعة لها. وأكد قائد العمليات الفريق الركن صالح حرز أن الجهود تركزت على تنظيف الوديان وشق مسار وادٍ جديد شرق المحافظة، ولا سيما في ناحية ليلان، بعد أن كان المجرى الطبيعي مغلقاً بسبب التجاوزات.
من جهته، أوضح مدير صيانة ري وبزل كركوك محمد مهدي أن الآليات المختصة عالجت الاختناقات المائية في شوراو وبنجة علي، وواصلت إصلاح الانهيارات في الجسور والطرق المتضررة، خصوصاً في قرة هنجير وليلان.
وأكد أن العمل مستمر لإعادة فتح الطرق ورفع الترسبات الحصوية، بما يضمن انسيابية المياه ومنع تكرار مشاهد الغرق.
وتكشف أزمة السيول في كركوك أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الأمطار، بل في العبث بمسارات الطبيعة، وترك مافيات الأراضي تعبث بالأودية دون رادع. ومع بدء إزالة التجاوزات، تبقى المعركة الأهم هي منع عودة هذا التمدد العشوائي، حفاظاً على أرواح المواطنين ومستقبل المدينة.
ثغرات التخطيط والرقابة.. مسؤولية غائبة
إلى جانب دور مافيات الأراضي، كشفت أزمة السيول في كركوك عن خلل عميق في منظومة التخطيط العمراني والرقابة الإدارية، حيث سمح غياب المتابعة خلال سنوات سابقة بتمدد البناء العشوائي دون الالتفات إلى الخرائط المائية أو الخصائص الجغرافية للمدينة.
ويؤكد مختصون أن تجاهل الأودية الموسمية في التصاميم الأساسية حوّلها من عناصر حماية طبيعية إلى نقاط ضعف قاتلة.
ويشير خبراء في شؤون الموارد المائية إلى أن عدم تحديث المخططات الحضرية وعدم فرض شروط البناء أسهما في تضييق المجاري الطبيعية، ما جعل أي موجة مطرية فوق المعدل تشكل تهديداً مباشراً.
ويرون أن معالجة الأزمة لا تكتمل بإزالة التجاوزات فقط، بل تستلزم إعادة النظر في سياسات منح الأراضي، وتفعيل الرقابة المسبقة لمنع تكرار سيناريو بيع أراضٍ غير صالحة للسكن.
كركوك أمام اختبار المواسم المقبلة
تمثل السيول الأخيرة إنذاراً مبكراً لما قد تشهده كركوك مستقبلاً في ظل التغيرات المناخية وازدياد شدة الأمطار خلال فترات قصيرة.
ويحذر مختصون من أن أي تأخير في استكمال فتح الأودية وتأهيل الممرات المائية سيجعل المحافظة أكثر عرضة لأزمات مماثلة، خصوصاً في المناطق المنخفضة والمحيطة بالقرى الزراعية.
ويؤكد هؤلاء أن كركوك بحاجة إلى استراتيجية طويلة الأمد لإدارة مخاطر السيول، تقوم على حماية المسارات الطبيعية للمياه، ومنع تحويلها إلى مشاريع سكنية تحت أي ذريعة، فالمعادلة باتت واضحة: إما احترام الجغرافيا الطبيعية للمدينة، أو دفع أثمان إنسانية واقتصادية أكبر مع كل موسم مطري جديد، في ظل واقع لم يعد يحتمل المعالجات المؤقتة.