الإنترنت المجاني في المدارس العراقية.. خطوة نحو التعليم الحديث أم شعار سياسي جديد؟
انفوبلس/ تقرير
في خطوة طال انتظارها، أعلنت وزارة الاتصالات العراقية، اليوم السبت، المباشرة بتنفيذ حملة لإيصال خدمة الإنترنت المجاني إلى المدارس عبر شبكة الكابل الضوئي (FTTH). جاء هذا الإعلان بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على صدور الموافقة الرسمية على المشروع في كانون الأول/ديسمبر 2024، ما أثار جدلاً واسعًا حول أسباب التأخير، والآثار المحتملة لهذه الخدمة على واقع التعليم في البلاد، والتساؤلات بشأن مستقبل المشروع واستدامته.
يُنظر إلى الإنترنت اليوم كونه ليس مجرد وسيلة اتصال، بل أداة أساسية للتعليم الرقمي والتفاعل مع العالم. ومع دخول مشاريع رقمنة المناهج والوسائل التعليمية الحديثة حيز التنفيذ، فإن غياب الإنترنت عن المدارس العراقية يعني حرمان الطلاب من أبسط أدوات التعلم العصري، ويضع العراق في موقع متأخر مقارنة بجيرانه ودول المنطقة.
من الوعود إلى التنفيذ المتأخر
في التاسع من كانون الأول/ديسمبر 2024، أعلن وزير التربية، إبراهيم نامس الجبوري، حصول موافقة على تزويد المدارس بخدمة الإنترنت المجاني بعد توقيع اتفاق مع شركة "إيرثلنك". حينها، تم الترويج للمبادرة باعتبارها قفزة نوعية نحو بناء بيئة تعليمية حديثة تواكب التطورات العالمية، لاسيما مع الشروع في مشروع "رقمنة المناهج" واعتماد أدوات الذكاء الاصطناعي في التعليم.
كما أكدت وزيرة الاتصالات، هيام الياسري، أن الخطوة جزء من برنامج "حكومة الخدمة الوطنية"، وأن شركة إيرثلنك – باعتبارها أكبر مزود لخدمة الإنترنت في العراق – أُلزمت قانونيًا بتأمين خطوط مجانية لجميع المدارس.
لكن بين الإعلان والتنفيذ الفعلي، مرت ثمانية أشهر كاملة، ما فتح باب الانتقادات حول التباطؤ البيروقراطي، وضعف التنسيق بين الوزارات، وربما غياب الإرادة السياسية الجادة في تحويل المشروع إلى أولوية وطنية.
البداية من بغداد.. ولكن ماذا بعد؟
المرحلة الأولى من المشروع انطلقت في جانب الرصافة من العاصمة بغداد اليوم السبت، وفق بيان مقتضب من وزارة الاتصالات. ورغم أهمية الخطوة، إلا أن عدم الإفصاح عن عدد المدارس التي شملتها الحملة، أو الجدول الزمني لتوسيعها إلى باقي المحافظات، أثار قلقًا وتساؤلات مشروعة: هل سيُنفذ المشروع على مستوى جميع المحافظات؟، أم أن نطاقه سيقتصر على المدارس الحضرية الكبرى؟ وماذا عن المدارس الريفية والنائية التي تعاني أصلًا من تردي البنى التحتية؟.
في العراق، هناك أكثر من 28 ألف مدرسة، تتوزع بين المحافظات والمدن والأرياف. وحتى اللحظة، لا توجد إحصاءات رسمية عن عدد المدارس التي ستُغطى في المرحلة الأولى أو حتى المستهدفة في المرحلة النهائية. هذا الغموض يضعف ثقة الجمهور في المشروع، ويعزز المخاوف من أن يتحول إلى مبادرة تجريبية قصيرة الأجل لا أكثر.
أهمية الإنترنت للتعليم الحديث
في العالم المعاصر، أصبحت خدمة الإنترنت في المدارس جزءًا لا يتجزأ من العملية التعليمية. فهي تتيح للطلاب الوصول إلى مصادر المعرفة العالمية، وتساعد المعلمين في استخدام أدوات تعليمية حديثة مثل المختبرات الافتراضية، التعليم التفاعلي، والبرامج الذكية لتقييم أداء الطلبة.
وقد أكدت وزارة التربية، على لسان متحدثها كريم السيد، أن هذه الخطوة تتناغم مع مشروع رقمنة المناهج، وأنها ستساهم في "رفع مستوى جودة التعليم وتشغيل الوسائل التعليمية الحديثة".
لكن في المقابل، لا يمكن إغفال أن ضعف البنى التحتية يشكل تحديًا كبيرًا. فالكثير من المدارس العراقية تعاني من نقص الكهرباء، وتهالك المباني، وغياب المختبرات. وبالتالي فإن إدخال الإنترنت إليها دون تحسين هذه الظروف قد يحد من فعالية المشروع.
انتقادات التأخير والبيروقراطية
ثمانية أشهر ليست مجرد فترة زمنية قصيرة، بل تمثل عامًا دراسيًا كاملًا تقريبًا. وبالنسبة للطلاب والمعلمين، كان بالإمكان استثمار تلك الأشهر في إطلاق المنصات التعليمية، وتدريب الكوادر، وتجهيز الفصول الدراسية.
يرى مختصون أن التأخير يعكس ضعف التخطيط المسبق، إذ لم يتم إعداد البنى التحتية التقنية بشكل متزامن مع قرار التنفيذ. وغياب التنسيق بين الوزارات، حيث لم يكن هناك وضوح في توزيع الأدوار بين التربية والاتصالات. وبيروقراطية إدارية تجعل من المشاريع التكنولوجية رهينة المراسلات والتواقيع بدلًا من المعالجات السريعة.
غياب الشفافية والإحصاءات
من أبرز الملاحظات على المشروع أنه حتى الآن يفتقر إلى شفافية البيانات. فلا توجد:
-إحصاءات عن عدد المدارس المشمولة بالخدمة.
-معلومات عن سرعة الإنترنت الممنوحة.
-خطط واضحة للتوسع الزمني والجغرافي.
-تقارير دورية عن نسب الإنجاز والتحديات.
هذا الغياب للأرقام لا يساعد في بناء ثقة الشارع بالمبادرة، ويجعلها عرضة للتشكيك بأنها مجرد إعلان سياسي هدفه الدعاية أكثر من كونه مشروعًا استراتيجيًا.
هل ينجو المشروع من التغييرات السياسية؟
من التحديات الكبيرة التي تواجه أي مشروع في العراق هو عدم استقراره مع تغيّر الحكومات. وغالبًا ما تتوقف المبادرات عند تبدل الوزارات أو تغيير أولوياتها. وبالنظر إلى أن البلاد مقبلة على تشكيل حكومة جديدة، فإن المخاوف تتزايد بشأن احتمال أن يتوقف المشروع عند حدود بغداد أو بعض المحافظات دون أن يشمل جميع المدارس.
لذلك يطالب خبراء التعليم والتكنولوجيا بضرورة وضع آليات قانونية ملزمة تضمن استمرارية المشروع مهما تغيرت الحكومات، حتى لا يضيع في دوامة الصراعات السياسية.
تجارب دولية مقارنة
للمقارنة، يمكن النظر إلى تجارب بعض الدول ومنها:
الأردن: أطلقت وزارة التربية برنامج "التعلم الإلكتروني" منذ عام 2003، واليوم تتمتع معظم المدارس بخدمة الإنترنت.
مصر: ربطت الحكومة آلاف المدارس الثانوية بشبكة الإنترنت في إطار مشروع تطوير التعليم.
الهند: رغم عدد سكانها الضخم، توسعت تدريجيًا في ربط القرى والمدارس بالإنترنت ضمن برنامج "الهند الرقمية".
هذه التجارب تثبت أن ربط المدارس بالإنترنت ليس ترفًا، بل ضرورة تنموية، وأن نجاحه يعتمد على الاستمرارية، التمويل الكافي، والشفافية.
أصوات من الميدان
بعض المعلمين يرون أن الإنترنت سيكون سلاحًا ذا حدين: فهو يفتح الباب أمام التعلم العصري، ويوفر مصادر غير محدودة للطلاب. لكنه قد يتحول إلى أداة للترفيه أو التشتيت إذا لم يتم ضبطه عبر برامج تعليمية مخصصة.
أما أولياء الأمور، فيأملون أن يسهم المشروع في تحسين مستوى أبنائهم الدراسي، لكنهم يشككون في أن الخدمة ستصل إلى مدارس المناطق النائية التي تعاني أصلًا من انقطاع الكهرباء وضعف الخدمات.
لضمان نجاح المشروع وتحقيق أهدافه، يقترح خبراء:
-وضع خطة زمنية واضحة تشمل جميع المحافظات.
-نشر إحصاءات شفافة حول نسب التنفيذ والمدارس المستفيدة.
-توفير برامج تدريبية للمعلمين على استخدام الأدوات الرقمية.
-تحسين البنية التحتية للمدارس بالتوازي مع إدخال الإنترنت.
-تشريع قوانين أو اتفاقيات ملزمة تمنع توقف المشروع بتغير الحكومات.
والخلاصة، فإن إيصال الإنترنت المجاني إلى المدارس خطوة إيجابية طال انتظارها، لكنها جاءت بعد تأخير أثار انتقادات واسعة، ولا تزال محاطة بالغموض والشكوك بشأن استمراريتها.
وفي بلد يعاني من فجوة تعليمية عميقة، لا يمكن النظر إلى هذه الخطوة على أنها إنجاز بحد ذاته، بل هي مجرد بداية لمسار طويل نحو بناء تعليم عصري يعتمد على التكنولوجيا. نجاح المشروع مرهون بالشفافية، الاستمرارية، والقدرة على تجاوز العقبات البيروقراطية والسياسية.
وحتى يتحقق ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيتحول الإنترنت المجاني في المدارس إلى حقيقة راسخة تساهم في إنقاذ التعليم العراقي؟ أم سيظل مجرد شعار دعائي ينضم إلى قائمة طويلة من الوعود المؤجلة؟

