الدكتور محمد طاهر.. رمز إنساني عالمي يتحول فجأة إلى هدف لحملات تشويه إلكترونية
خلفيات مشبوهة للحملة
انفوبلس..
لم يكن يتوقع الطبيب العراقي محمد طاهر أبو رغيف الموسوي، أن تتحول إجابته العلمية على سؤال صحفي، إلى مادة للهجوم والتشويه عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
الطبيب الذي عرفه العراقيون والعالم كأحد أبرز الجراحين في مجال جراحة الأطراف الدقيقة، وأحد رموز العمل الإنساني في غزة، وجد نفسه فجأة في مواجهة حملة إلكترونية منظمة، وصفتها مصادر مراقبة بأنها "مبيتة" وذات دوافع سياسية وإعلامية أكثر من كونها رد فعل عفوي.
بداية القصة
أبو رغيف، الذي اشتهر بتفانيه في خدمة الجرحى والمصابين خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، كان قد استضافته إحدى القنوات الفضائية للتعليق على قضية انتحار الدكتورة بان زياد طارق في محافظة البصرة.
وخلال المقابلة، سُئل سؤالاً طبياً مباشراً حول إمكانية أن يقوم الإنسان بإحداث جرح في إحدى يديه ثم يجرح الأخرى ويكتب عبارة باليد المصابة، أجاب الطبيب بصفته متخصصاً قائلاً: "نعم، يمكن ذلك، خصوصاً إذا كان الجرح طولياً لا عرضياً، بما لا يؤدي إلى قطع الأوردة والشرايين مباشرةً".
رغم أن تصريحه كان علمياً بحتاً ولم يتطرق بشكل مباشر إلى الدكتورة المتوفاة، إلا أن الجواب استُغل على نطاق واسع لتصويره وكأنه اتهام صريح بحقها، مما أشعل موجة انتقادات وهجوم شخصي ضده عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
هجوم غير مبرر
الموجة التي وُصفت بأنها "هجمة شعواء" لم تقتصر على التعليقات الناقدة، بل اتخذت طابعاً منظماً، حيث ظهرت عشرات الصفحات التي نشرت مقاطع مجتزأة من حديثه لإظهاره بصورة المسيء.
مراقبون أكدوا أن هذه الحملة لم تكن وليدة اللحظة، بل جاءت نتيجة مواقف الرجل السابقة من قضايا حساسة، أبرزها دعمه المعلن للقضية الفلسطينية، وشهادته على جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزة، إضافة إلى لقائه المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، الأمر الذي اعتبره بعض الخصوم إشارة سلبية تتعارض مع أجنداتهم الإعلامية الممولة من الخارج.
خبراء إعلاميون يرون أن الحملة التي استهدفته تحمل بصمات "الاستهداف السياسي"، حيث أن صورته المرتبطة بنصرة فلسطين والاقتراب من المرجعية الدينية في النجف لا تنسجم مع بعض الأجندات الإعلامية الممولة من الخارج، ويشير آخرون إلى أن الاستهداف يعكس محاولة لإسكات الأصوات التي تفضح جرائم الاحتلال، خصوصاً عندما تصدر من طبيب مختص عاش التجربة ميدانياً.
رد الطبيب
في مواجهة الهجمة، كتب الدكتور أبو رغيف سلسلة منشورات على صفحاته الشخصية، أكد فيها أنه لا يبحث عن الشهرة ولا يلهث وراء "التريندات"، مضيفاً: "لم نُخلق لنرضي الناس، بل جئنا لنقول كلمة الحق مهما كان الثمن".
واستشهد بكلمات الإمام الحسين عليه السلام ليلة عاشوراء، معتبراً أن ما يمر به ليس إلا اختباراً للثبات والصبر.
وأضاف: "هاجموني أيضاً حين دافعت عن غزة، لكن ما يحزنني حقاً ليس الإساءة لي، بل أن أرى شعبي منقسمًا ومشدودًا خلف أجندات خارجية تستغل حتى وفاة إنسانة لتوظيفها في معارك إعلامية رخيصة"، وختم بالدعاء للراحلة بالرحمة وللعراق بالشفاء من جراحه.
إنجازاته الطبية في غزة
بعيداً عن الهجوم الإلكتروني، تبقى إنجازات الدكتور أبو رغيف شاهداً على مسيرته الطبية والإنسانية. خلال خمسة أشهر قضاها متطوعاً في قطاع غزة مع الفريق الطبي الأوروبي، أجرى أكثر من 290 عملية جراحية كبرى، متحدياً نقص الإمكانيات والخطر المستمر.
أبرز تلك العمليات كانت إعادة يد الطفلة "مريم" (9 سنوات) التي بُترت نتيجة قصف إسرائيلي.
وبعد ثلاثة أيام من البحث، تمكنت عائلتها من العثور على اليد تحت الركام، ليخوض أبو رغيف تحدياً جراحياً معقداً انتهى بنجاح العملية وزراعة اليد مجدداً، رغم المخاوف الكبيرة من الالتهابات نتيجة التلوث والمواد الكيماوية. هذه القصة تحولت إلى رمز للأمل في غزة، وانتشرت على نطاق واسع في الإعلام العربي والدولي.
شهادة النقابة
نقابة أطباء العراق أصدرت بياناً رسمياً أثنت فيه على جهود أبو رغيف، واصفة إياه بـ"ابن العراق" الذي حمل اسم بلده في أصعب الميادين. وأشارت إلى أن ما قدمه يمثل "نموذجاً فريداً للتضحية والإنسانية، وصفحة مضيئة في تاريخ الطب العراقي".
وجاء في البيان: "في وقت تتعاظم فيه الأزمات وتواجه الإنسانية أقسى التحديات، تبرز أسماء تتلألأ في سماء العطاء والتضحية، ومن بينهم الدكتور محمد طاهر الموسوي الذي مثّل أطباء العراق بأبهى صور الفخر والإنسانية".
السيرة الذاتية
ولد محمد طاهر أبو رغيف في بريطانيا (ويلز) قبل منتصف ثمانينيات القرن الماضي، من أبوين عراقيين. نشأ وترعرع هناك، وأكمل دراسته الجامعية والتخصصية في أعرق الجامعات البريطانية، ليتخصص في جراحة الأطراف الدقيقة. رغم نجاحه المهني في أوروبا واستقرار عائلته في لندن، اختار التطوع في غزة عام 2023 ضمن الفريق الطبي الأوروبي.
بحسب النقابة، لم يكتفِ بعمليات الإنقاذ، بل حرص على رفع علم العراق على صدره طوال فترة تطوعه، تعبيراً عن انتمائه واعتزازه بوطنه. وكان مشهد رفع أهالي غزة له على الأكتاف بعد وقف إطلاق النار، دليلاً على تقديرهم الكبير لدوره.
رغم ما تعرض له من إساءة، واصل أبو رغيف التعبير عن قناعاته بضرورة الوحدة الوطنية في العراق، وتحذيره من خطورة التشرذم الداخلي. ففي أحد تصريحاته قال: "ما نحتاجه أكثر من أي وقت هو أن نكون أكثر عقلانية واتزاناً. أمامنا أيام صعبة، وما يحزنني أن البعض استغل موت أختنا الدكتورة بان لأغراض شخصية لا تمت للإنسانية بصلة".
الدكتور أبو رغيف لم يعد مجرد طبيب ناجح، بل تحوّل إلى رمز إنساني يثير الفخر في الداخل العراقي والخارج العربي. فبينما حاولت بعض الحملات تشويهه، جاء الرد الطبيعي من نقابة الأطباء، ومن عائلات فلسطينية احتضنته، ومن متابعين اعتبروا قصته درساً في التفاني والإخلاص.
التواصل الاجتماعي وصناعة الأزمات
ما جرى مع الدكتور محمد طاهر أبو رغيف يطرح تساؤلات أوسع حول دور مواقع التواصل الاجتماعي في صناعة الأزمات وتشويه الحقائق. فبدلاً من أن يُحتفى بإنجازاته الإنسانية التي خففت آلام مئات العائلات في غزة، وجد نفسه ضحية "محكمة إلكترونية" لا ترحم. ومع ذلك، يظل صموده وإيمانه برسالته الطبية والإنسانية أقوى من حملات الإساءة.
لقد قدّم أبو رغيف نموذجاً عراقياً مضيئاً يثبت أن أبناء العراق، رغم كل التحديات، قادرون على أن يكونوا في الصفوف الأمامية حين يتعلق الأمر بالدفاع عن القيم الإنسانية، بعيداً عن المصالح الضيقة والحسابات السياسية. وربما تكون قصته مثالاً على أن الحقيقة، مهما تعرّضت للتشويه، لا بد أن تظل حية في ذاكرة الشعوب.