العراق يشيّع العلامة محمد علي بحر العلوم بعد مسيرة علمية وفكرية حافلة بالعطاء
قامة دينية وأكاديمية رفيعة
انفوبلس..
في حدث ألقى بظلال من الحزن على الأوساط الدينية والعلمية والسياسية في العراق، أعلنت العتبة العباسية المقدسة، مساء السبت، وفاة أستاذ الحوزة العلمية في النجف الأشرف، العلامة السيد محمد علي بحر العلوم، إثر نوبة قلبية مفاجئة ألمّت به أثناء رحلة جوية، لم تفلح محاولات إنعاشه في إنقاذ حياته. وجاءت وفاته في يوم يتزامن مع ذكرى وفاة النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، ما زاد من وقع الفاجعة وألمها لدى محبيه وتلامذته.
إرث علمي وديني ممتد
ينتمي الفقيد إلى أسرة آل بحر العلوم، وهي من أبرز العوائل الدينية والعلمية في العراق، إذ يعود تاريخها إلى القرن الثاني عشر الهجري، حين أسسها المرجع الكبير السيد محمد مهدي الطباطبائي الحسني المعروف بـ "بحر العلوم".
ومنذ ذلك الحين، توارثت الأسرة موقعها المرموق في النجف الأشرف بوصفها بيتاً للعلم والمعرفة والزعامة الدينية والاجتماعية، وقد خرج منها عشرات العلماء والأدباء والشخصيات الوطنية.
والسيد محمد علي هو نجل العلامة الراحل ورئيس مجلس الحكم الأسبق محمد بحر العلوم، وشقيق وزير النفط الأسبق إبراهيم بحر العلوم، ما جعل موقعه يتجاوز الدائرة الدينية إلى الحضور في الحقلين الأكاديمي والسياسي على حد سواء.
كما كان أحد مؤسسي معهد العلمين للدراسات العليا في النجف، وهو مؤسسة علمية وأكاديمية تُعنى بالدراسات السياسية والفكرية، وقد لعب من خلالها دوراً مؤثراً في ربط الحوزة بالفضاء الأكاديمي والبحثي الحديث.
حضور اجتماعي وفكري واسع
تميّز السيد محمد علي بحر العلوم بحضوره الفاعل في ميادين الفكر والدين والاجتماع، حيث كرّس جهوده لترسيخ مبادئ الثورة الحسينية، وإحياء الشعائر والمناسبات الدينية وفي مقدمتها زيارة الأربعين، عبر المشاركة الميدانية والخطاب التوعوي الذي يربط بين قيم النهضة الحسينية ومقتضيات الواقع العراقي.
كما عُرف باعتداله وانفتاحه على مختلف مكونات المجتمع، وهو ما أكسبه احتراماً واسعاً في الأوساط الثقافية والسياسية.
ردود فعل رسمية وسياسية
فور الإعلان عن رحيله، توالت بيانات العزاء من مختلف الشخصيات والجهات الرسمية والدينية، فقد عبّر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عن خالص مواساته، مشيراً إلى أنه برحيل السيد "فقدت الساحة العلمية والفكرية صوتاً بارزاً من أصوات الاعتدال والدعوة إلى التآخي والتسامح".
أما النائب الأول لرئيس مجلس النواب محسن المندلاوي فقد وصف الفقيد في تغريدة على منصة "إكس" بأنه "شخصية استثنائية كرّست حياتها لخدمة الإسلام والمجتمع ونشر العلم"، مؤكداً أن رحيله خسارة للساحة الدينية والفكرية والاجتماعية.
وبالمثل، أصدر رئيس مجلس النواب محمود المشهداني بياناً أكد فيه أن العلامة الراحل كان "عالماً ربانياً ومصلحاً اجتماعياً كرّس حياته لنشر القيم الإسلامية الأصيلة وخدمة الوطن"، معتبراً أن العراق فقد برحيله قامة علمية وروحية كبرى.
جذور عريقة في النجف
ترجع مكانة آل بحر العلوم إلى ارتباطها العميق بتاريخ النجف الأشرف، مدينة الحوزة العلمية الكبرى، حيث امتدت زعامتها عبر ثلاثة قرون متواصلة، وبرز في تاريخها رجال كان لهم دور بارز في الحياة الدينية والسياسية، إذ ساهم بعضهم في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، فيما عرف آخرون بمواقفهم الوطنية في مواجهة الأنظمة المتعاقبة.
وقد نشأ السيد محمد علي بحر العلوم في هذا الجو العلمي والوطني، وتلقى علومه على يد أساتذة الحوزة الكبار، ليصبح بدوره أحد رموزها البارزين، ويمثل حلقة واصلة بين تقاليد الحوزة الراسخة ومقتضيات الفكر السياسي والاجتماعي الحديث.
لم يقتصر دور الراحل على التدريس في الحوزة، بل كان من أبرز المشاركين في الحوارات الفكرية والسياسية داخل العراق وخارجه. وقد ورث عن أبيه – الذي كان له حضور واسع في الساحة السياسية بعد سقوط النظام السابق عام 2003 – القدرة على الجمع بين الخطاب الديني والفكر الوطني، وسعى عبر نشاطاته المختلفة إلى تعزيز قيم المواطنة والتعايش، والتأكيد على دور الدين كعامل وحدة لا سبب انقسام.
فاجعة وخسارة وطنية
أعلنت العتبة العباسية أن أبوابها ستظل مفتوحة لاستقبال المعزين، فيما أعدت الحوزة العلمية في النجف برامج خاصة لقراءة الفاتحة وإقامة مجالس العزاء، وسط مشاركة وفود من مختلف أنحاء العراق.
رحيل السيد محمد علي بحر العلوم جاء بمثابة صدمة للوسط العلمي والاجتماعي في النجف والعراق عموماً، إذ اعتبره كثيرون خسارة يصعب تعويضها، لا سيما في مرحلة يحتاج فيها العراق إلى أصوات الاعتدال والتقريب بين المذاهب والأطياف، فقد كان يمثل، إلى جانب مكانته الدينية، جسراً بين الماضي المتمثل بتراث آل بحر العلوم، والحاضر الذي يفرض تحديات فكرية وسياسية معقدة.
وقد أعلنت العتبة العباسية أن أبوابها ستظل مفتوحة لاستقبال المعزين، فيما أعدت الحوزة العلمية في النجف برامج خاصة لقراءة الفاتحة وإقامة مجالس العزاء، وسط مشاركة وفود من مختلف أنحاء العراق.
وبرحيل العلامة السيد محمد علي بحر العلوم، تطوي الحوزة العلمية صفحة مضيئة من صفحاتها، لكنها تترك للأجيال المقبلة إرثاً علمياً وفكرياً سيظل حاضراً في وجدان طلابه وتلامذته وكل من عرفه. وهو إرث يقوم على الاعتدال والوسطية وخدمة الناس، قيمٌ جسّدها الفقيد في حياته، وتبقى شاهداً على أثره العميق في مسيرة النجف والعراق.