اليوم الدولي لمترجمي لغة الإشارة.. واقع "مؤلم" في العراق: تهميش وغياب الاعتراف القانوني
انفوبلس/ تقرير
في الثالث والعشرين من أيلول من كل عام، يُحيي العالم، اليوم الدولي لمترجمي لغة الإشارة، احتفاءً بفئة مهنية تقف على تخوم الصمت والكلمة، وتمنح ذوي الإعاقة السمعية حق الوصول إلى المعلومة والمشاركة في المجتمع. ورغم أن دورهم محوري في تمكين الصمّ من العيش بكرامة، فإن هذه الفئة ما زالت تعاني من التهميش، وغياب الاعتراف القانوني، وضعف الحماية المؤسسية.
الاحتفال السنوي ليس مجرد طقس رمزي، بل هو دعوة لتسليط الضوء على واقع مهني عسير، يفتقر فيه المترجمون إلى مسارات واضحة للتدريب والتوظيف، ويتعرضون لضغوط نفسية واجتماعية، وسط تجاهل الإعلام والمؤسسات لدورهم الحيوي.
اعتراف عالمي: لغة حيّة وهوية إنسانية
مع تصاعد الاهتمام بلغة الإشارة كوسيلة تواصل وهوية ثقافية، يسلّط رئيس المنظمة العربية لمترجمي لغة الإشارة، عبد الواسع محمد مجلي، الضوء على واقعها وتحدياتها في العالم العربي، إذ يقول: إن "الاحتفال باليوم العالمي للغة الإشارة ليس مناسبة عابرة، بل هو اعتراف عالمي بلغة حيّة تعبّر عن مشاعر وأفكار الصم، وتنقل لهم ما يدور في المجتمع من ثقافات ومتغيرات".
وأوضح، مجلي أن "لغة الإشارة شأنها شأن أي لغة حيّة، تتأثر بالعادات والتقاليد والبيئة. فلكل دولة عربية لغة وطنية نابعة من ثقافتها، تتشكل داخل منظومتها الدينية والاجتماعية، إلى جانب ما يعرف بـ"اللغة الإشارية المحلية"، التي تستخدم لتسمية الأماكن والشخصيات في مدن أو مناطق معينة".
وأكد أن "الدين والهوية الثقافية تؤثر مباشرة في بنية الإشارة، ولا يمكن عزلها عن المجتمع". مبينا أن "المنظمة لعبت دورا محوريا في تمكين المترجمين، عبر ورش عمل وندوات، وأصدرت مدونة سلوك تحافظ على سرّية وكرامة الأصم، وتضمن احترام الفروق الثقافية".
وأكد عبد الواسع، أن "المدونة أصبحت مرجعية أخلاقية لأكثر من 300 مترجم عربي"، مشددا على أن "المترجم ليس ناقلا حرفيا، بل حامل رسالة يجب أن يؤديها بأمانة، ووعي بالاختلافات الفردية والثقافية". منوها إلى أن "المنظمة سعت لتطوير هذا المجال بشكل ممنهج، من خلال مؤتمرات بالتعاون مع مؤسسات كبرى، مثل جمعية "جسور" الأردنية والجمعية العالمية لمترجمي لغة الإشارة، ما عزز الحضور العربي والدولي لقضية الترجمة الإشارية".
ولفت مجلي إلى أن "لغة الإشارة ليست مستقلة بالكامل عن اللغات المحكية، بل تتكامل معها، وتبني مفاهيمها الخاصة عبر الرؤية البصرية والإيماء، بما يلائم ذاكرة الصم البصرية"، مشيرا إلى أن "تعليم لغة الإشارة لغير الصم يبدأ من حب المهنة، ويتدرج من الإشارات الأبجدية إلى الجمل والنصوص، مرورا بالمفردات، مع اعتماد أساليب بصرية كالفيديو والصور والتطبيق العملي"، معتبرا "المعايشة الواقعية والانخراط في بيئة الصم ضروريا لتكوين مترجم متمكّن من جميع النواحي".
وعن أبرز التحديات، كغياب التوصيف الوظيفي والحقوق المهنية، وعدم وجود تشريعات تضمن للمترجم التثبيت والترقية والاعتراف القانوني، أوضح أن "بعض الدول تمنع دخول المترجم للمؤسسات الرسمية والمحاكم، رغم وجود صم بحاجة ماسة له"، داعيا لإقرار تشريعات واضحة تحمي المهنة والمترجمين. وكشف عن تحضيرات لإقامة مؤتمر عربي دولي في العراق بالشراكة مع أكاديمية الإمام الحسين (ع) وهيئات عربية، لترسيخ حقوق المترجمين.
العراق: غياب التنظيم وحلم الاعتراف الرسمي
وعن الواقع العراقي، حيث تتقاطع التحديات التنظيمية مع الحاجة الماسة إلى الاعتراف الرسمي بمهنة الترجمة الإشارية، أكد الخبير ومدرب لغة الإشارة، باسم العطواني، مدير أكاديمية الإمام الحسين (ع) لذوي الإعاقة السمعية، أن "واقع مترجمي لغة الإشارة في العراق لا يزال يفتقر إلى التنظيم والتطوير، رغم أهمية هذا التخصص في دعم فئة الصم وتمكينهم من التفاعل مع مؤسسات الدولة والمجتمع".
وأوضح العطواني أن "التقييم الحقيقي لأداء المترجمين يعتمد على عناصر عدة، أبرزها: أبرزها: كفاءة التدريب، ووجود مراكز تأهيل معترف بها، والاعتراف الرسمي بلغة الإشارة كلغة تواصل معتمدة". وأضاف أن "الترجمة ليست مجرد مهارة، بل مهنة تتطلب تأهيلا علميا وميدانيا مستمرا، بإشراف جهات مختصة".
العطواني شدد على "ضرورة إنشاء مراكز تدريب متخصصة في المحافظات، تعنى بتطوير مهارات الترجمة من الناحيتين النظرية والعملية"، مشيرا إلى أن "ذلك سينعكس بشكل مباشر على جودة الخدمة المقدمة للأشخاص من ذوي الإعاقة السمعية". لافتا الى أن "العراق بحاجة إلى تشريعات واضحة تنظم عمل المترجمين، وتمنحهم صفة وظيفية وقانونية تضمن لهم حقوقهم داخل المؤسسات".
كما أكد أن "دمج المترجمين في القطاعات التعليمية والقضائية والصحية ضرورة أساسية، لتمكين الصم من التفاعل الكامل مع محيطهم".
وفي السياق ذاته، كشف العطواني عن نقص كبير في عدد المترجمين المؤهلين، وغياب التمويل الكافي للمراكز العاملة في هذا المجال، إلى جانب ضعف التوعية بحقوق الصم، مطالباً بإدراج (مترجم لغة إشارة) ضمن الهيكل الوظيفي لمؤسسات الدولة، مع تخصيص درجات وظيفية لذلك. وعن دور أكاديمية الإمام الحسين (ع)، أشار إلى أنها "قدّمت برامج تأهيل للصم وعائلاتهم، ونفذت ورشا تدريبية لنشر ثقافة لغة الإشارة في الجامعات ووزارات الدولة.
كما تعاونت الأكاديمية مع مؤسسات عربية، واستضافت رئيس المنظمة العربية لمترجمي لغة الإشارة ضمن برنامج تدريبي امتد لشهر كامل". كما أعلن العطواني عن التحضير لعقد مؤتمر دولي في كربلاء، برعاية العتبة الحسينية ومحافظة كربلاء، بمشاركة شخصيات عربية رفيعة.
وأضاف أن "الأكاديمية أطلقت مؤخرا مشروع (إضافة)، الذي يهدف إلى جمع وتوثيق ألف مفردة غير مشمولة بإشارات رسمية، بالتعاون مع المنظمة العربية لمترجمي لغة الإشارة، لإصدار قاموس إشاري عربي موحّد". مشيرا إلى أن "الأكاديمية حصلت على شهادة اعتماد رسمية من المنظمة العربية، لتكون أول جهة عراقية تنال هذا الاعتراف، كما أبرمت بروتوكولات تعاون مع مؤسسات تعليمية وصحية داخل العراق وخارجه". وتحدث العطواني عن إنجاز مهم تمثل بإعداد (القاموس الإسلامي الإشاري العراقي)، إلى جانب إنشاء ورشة خياطة لتدريب النساء الصم على مهنة مستدامة، حيث يتم تسويق منتجات الورشة لمؤسسات طبية وفندقية في كربلاء.
ولم ينسَ العطواني، الإشادة بمشاركة عدد من الصم في صفوف الحشد الشعبي، وتكريمهم من قبل العتبة الحسينية، مؤكدا أن "هذه الشريحة قدّمت التضحيات وشاركت في الدفاع عن الوطن". أما على صعيد الطموحات، فأوضح، أن "الأكاديمية تسعى لافتتاح فروع في جميع المحافظات، وتسجيلها ضمن الاتحاد العالمي لمترجمي لغة الإشارة".
وأكد العطواني، في ختام حديثه على "أهمية استعادة حقوق الصم، خاصة المعين المتفرّغ"، مبينا أن "الصم لا يستطيعون مراجعة طبيب أو محكمة أو إجراء عقد زواج دون وجود مترجم، مما يجعل وجود معين قانوني ومهني ضرورة لا رفاهية"، مشددا على "ضرورة تفعيل بروتوكول التعاون مع وزارة العمل وهيئة رعاية ذوي الإعاقة، الموقّع منذ 2019، لمنح الأكاديمية صلاحية إصدار رخص مزاولة مهنة، لكي تنال فئة الصم حقوقها الكاملة، بدعم مؤسسي وتشريعي حقيقيين من الدولة".
المستشفيات ليست الأماكن الوحيدة التي تفتقر لمترجمي لغة الإشارة، بل حتى المحاكم وكتاب العدول أيضاً. وهذا ما أكده مصطفى ميران، مترجم ومذيع لغة الإشارة لدى شبكة الإعلام العراقي.
ذكر ميران، أنّه اقترح في اجتماع له مع القاضي فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، تخصيص مترجم لغة إشارة في كل محكمة لمساعدة الأشخاص الصمّ، أو تدريب الموظفين على كيفية التعامل معهم باستخدام لغة الإشارة، إلّا أن زيدان بيّن له أن ذلك غير ممكن. ونوّه، بحسب ميران، أن المجلس بصدد إصدار كتاب تسهيل مهمة لمترجمي لغة الإشارة، ليسهّل عليهم المراجعات داخل المحاكم ومكاتب الكتاب العدول.
كما ذكرى عبد الكريم، رئيسة هيئة حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، وهي إحدى تشكيلات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ذكرت لجمّار أن المحاكم العراقية قد تستعين بمترجم لغة إشارة معتمد من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، في القضايا التي يكون أحد أطرافها من فئة الصمّ والبكم.
في العراق لا يوجد قسم جامعي مختص بتعليم لغة الإشارة، وبحسب القائمين على معهد الأمل للصمّ والبكم في الصويرة، بمحافظة واسط، فإنّ عدد المعاهد الحكومية الخاصة بتعليم الصم والبكم في العراق 25 معهداً فقط.
كما أن حلم الشهادة الجامعية لا يزال صعب المنال بالنسبة لفئة الصمّ والبكم داخل العراق، فعلى الرغم من عدم وجود قانون يمنع الصمّ والبكم من إكمال تعليمهم الجامعي؛ إلّا أن العائق أمامهم هو إكمالهم للدراسة الثانوية واجتيازهم الامتحانات الوزارية، لاقتصار التعليم على المرحلة الابتدائية غالباً.
وما يتاح من بيانات لدى جهاز الإحصاء المركزي يعود لعام 2020، عن عدد الأشخاص المستفيدين في دور ذوي الاحتياجات الخاصة، ممن لديهم اضطراب وصعوبة في التكلّم والسمع: 487 شخصاً، 133 من الإناث، و354 من الذكور.
أمّا وسائل الترفيه الخاصة بمجتمع الصم والبكم، فتقتصر على ترجمة نشرة الأخبار الرئيسية التي تبث عبر شبكة الإعلام العراقي إلى لغة الإشارة، ولكنها تغيب عن سائر البرامج المتلفزة.
بحسب هيئة حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد مجتمع الصم والبكم في العراق، لكنّ جهاز الإحصاء المركزي، يذكر أن عددهم أكثر من 272 ألف نسمة.
كذلك الحال بالنسبة لإحصائيات معلمي ومترجمي لغة الإشارة، لا توجد إحصائيات رسمية لدى هيئة حقوق ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، عن عدد مترجمي لغة الإشارة، بل هناك تقديرات وضعها مترجمي لغة الإشارة بأنفسهم، والتقدير أن عددهم لا يتجاوز المئة مترجم ومترجمة ضمن القوائم الرسمية في عموم البلاد.
بالرغم من أن العراق يُعدّ من الدول التي أقرّت تشريعات لحماية حقوق ذوي الإعاقة ومن بينهم الصم والبكم، إلا أن تنفيذها يواجه تحدياتٍ كبيرة.
القانون رقم 11 لسنة 2024، وهو التعديل الأول لقانون حقوق الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم 38 لسنة 2013، ينصّ على منحهم حقوقاً متساوية في التعليم، والعمل، والرعاية الصحية، وتأمين مترجمين مختصين بلغة الإشارة في مختلف المؤسسات.
ومع ذلك، لا تزال الفجوة بين النصوص القانونية وتطبيقها على أرض الواقع واضحة، وهذا ما أكدته بشرى العبيدي، الخبيرة القانونية، "هناك فرق بين ما مكتوب على الورق وما موجود على أرض الواقع"، وذكرت، أن العراق عضو في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وفق القانون رقم (16) لسنة 2012.
تقول العبيدي إنّ الحكومات المتعاقبة لا تولي اهتماماً لحقوق الإنسان بصورة عامة، ولا تبالي لحقوق ذوي الإعاقة، على عكس الدول الأخرى التي تحترم حقوقهم في توفير طرق مخصصة لهم، وحتى ممرات عبور الإشارات الضوئية، وتسخير التقدم التكنلوجي لتيسير حياة الأشخاص من ذوي الإعاقة.
وأضافت أن موانع المسؤولية في قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969، يحدد خمسة موانع من المسؤولية ومن بينها المؤثرات العقلية وذوي الاضطراب العقلي، ومن ضمن ذوي "الاضطراب العقلي" هم مجتمع الصم والبكم، الذين لم يتلقوا تعليماً لرفع درجة أهليتهم، لذا يجب أن يجلبوا ما يثبت أن الإعاقة لم تؤثّر على الإدراك، ويجب أن يخضعوا لفحص يثبت صحة سلامتهم العقلية في الإجراءات والمعاملات الرسمية.
وعن حلمهم بتخصيص "كوتا" لهم في البرلمان ومجالس المحافظات، واتخاذ القرار السياسي، أوضحت العبيدي أنّ بإمكان ذوي الإعاقة، الضغط للحصول على تمثيل لهم داخل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية.
لغة مستقلة ومتنوعة
وفي إطار الرؤى العربية لتطوير لغة الإشارة وتعزيز حضورها المجتمعي، يقدّم بهاء السيد نوفل، مترجم ومدرب لغة الإشارة من مصر، قراءة في التحديات والفرص، إذ يقول: إن "لغة الإشارة ليست مجرد وسيلة تواصل بديلة، بل لغة قائمة بذاتها. لها قواعد وبنية لغوية مستقلة، وتختلف من دولة لأخرى، بل ومن مدينة لأخرى داخل الدولة ذاتها".
وأوضح نوفل أن "لغة الإشارة، شأنها شأن اللغات المنطوقة، تتنوع بين الإقليمية والدولية، مثل الأمريكية(ASL) والبريطانية (BSL) والعربية، مع وجود فروقات في الإشارات بين مدن مصرية كالقاهرة والإسكندرية وغيرهما".
وأضاف نوفل، أن "لغة الإشارة لا تترجم حرفيا من اللغة المنطوقة، بل لها تركيب خاص يعتمد على ترتيب مغاير للجمل، إلى جانب ضرورة استخدام تعابير الوجه وحركات الجسد بدقة، ضمن السياق الكامل للجملة". وأكد أن "الصم يواجهون تحديات يومية في التواصل، أبرزها نقص المترجمين في المؤسسات العامة والحكومية، فضلا عن ضعف الوعي المجتمعي بلغة الإشارة، والاعتماد المفرط على الكتابة أو قراءة الشفاه، وهي وسائل غير فعّالة دائما".
وفي ما يخص تعليم الأطفال الصم، شدد نوفل على أهمية دور الأسرة، مؤكدا أن "تعلم الأهل للإشارة مبكرا يعزز فرص تفاعل الطفل ونموه، كما أن وجود معلمين مؤهلين ومدارس متخصصة يمثل ركيزة أساسية في تطوير قدراته". وحول تعلم لغة الإشارة، أوصى نوفل بـ"الالتحاق بدورات تدريبية معتمدة، والتفاعل المباشر مع الصم"، مشيرا إلى "أهمية متابعة محتوى مرئي وتطبيق التدريب المنتظم".
وفي النهاية يمكن القول إن اليوم الدولي لمترجمي لغة الإشارة فرصة للتذكير بأن الحقوق لا تُقاس بالنوايا أو النصوص فقط، بل بالتطبيق الواقعي. فالمترجمون ليسوا مجرد أدوات لنقل الكلام، بل هم جسر حياة يربط بين الصمت والمجتمع، وبين الحق والواجب.
ولكي يخرج العراق والعالم العربي من دائرة الشعارات إلى دائرة الحقوق، لا بد من:
*إصدار تشريعات واضحة تضمن للمترجمين صفة وظيفية.
*إنشاء مراكز تدريب وتأهيل في كل محافظة.
*دمج المترجمين في المحاكم والمستشفيات والجامعات.
*تخصيص حصص سياسية وإعلامية للصم.
*تفعيل الاتفاقيات الدولية بخطط عمل واقعية.
من دون ذلك، سيظل المترجمون يعيشون في الظل، وستبقى حقوق الصم حبراً على ورق.

