تنمر ومخدرات وانتحار.. غياب الإرشاد التربوي والنفسي عن المدارس يفاقم السلوكيات السلبية
انفوبلس/ تقرير
تشهد البيئة التعليمية في العراق منذ سنوات أزمات متراكمة انعكست بشكل مباشر على الطلبة في مختلف المراحل الدراسية، خاصة في المرحلة الإعدادية التي تُعدّ مفصلية في مستقبلهم التعليمي والمهني. وبعد سلسلة من الحوادث المأساوية التي شهدها العام الدراسي الماضي، بينها حالات انتحار لطلبة بسبب نتائج الامتحانات الوزارية في محافظات متعددة مثل ذي قار وكركوك وبغداد والنجف، اضطرت وزارة التربية إلى إعادة النظر بشكل شامل في ملف الصحة العقلية والإرشاد التربوي داخل المدارس، وأطلقت خطة واسعة تستهدف تحصين الطلبة نفسياً وسلوكياً.
هذا التقرير يرصد أبعاد هذه الخطة، والظروف التي استدعت تبنّيها، والتحديات التي تعترض طريقها، فضلاً عن آراء المتخصصين والخبراء بشأن ضرورة إحياء منظومة الإرشاد التربوي بوصفها ركيزة أساسية في التربية والتعليم.
من الفاجعة المجتمعية إلى التحرك المؤسسي
خلال العام الدراسي الماضي، تحولت نتائج الامتحانات الوزارية إلى "فاجعة مجتمعية" بعد تسجيل أكثر من حالة انتحار بين طلبة المرحلة الإعدادية في عدد من المحافظات. هذه الحوادث لم تكن مجرد وقائع فردية، بل مثّلت انعكاساً لمشاكل عميقة في البيئة التعليمية والاجتماعية. فقد أظهرت أن الضغوط النفسية التي يعيشها الطلبة، سواء من المناهج الدراسية الثقيلة أو من توقعات الأسرة العالية، لم تُجدِ أي دعم أو تفريغ داخل المدرسة.
غياب المرشد التربوي، وضعف جاهزية الكوادر التعليمية للتعامل مع الطلبة في حالات الانهيار النفسي أو الضغط الحاد، شكّل عاملاً مضاعفاً لهذه الأزمة. من هنا، بدأ النقاش المجتمعي يتسع حول مسؤولية وزارة التربية ومؤسسات الدولة في حماية الصحة النفسية للطلبة، والبحث عن آليات جديدة تضمن بيئة تعليمية آمنة.
واستجابةً لهذه الأحداث، أعلنت وزارة التربية العراقية عن خطة جديدة تهدف إلى تعزيز منظومة الإرشاد النفسي والاجتماعي داخل المدارس. أبرز معالم هذه الخطة تتلخص في النقاط التالية:
ـ تفعيل دور المرشدين التربويين: عبر إرسال تعليمات جديدة للكوادر التربوية بمتابعة حالات الطلبة بشكل دقيق، والتواصل المستمر مع أُسرهم.
ـ التنسيق مع جهات داعمة: كالشرطة المجتمعية والدوائر الصحية، من أجل التدخل السريع في حال رصد أي حالة تستدعي متابعة خاصة.
ـ إطلاق قسم خاص بالمؤثرات العقلية: وهو تشكيل جديد داخل الوزارة يُعنى بالصحة العامة والسلامة الذهنية للطلبة، ويركز على تحصينهم من الضغوط والمؤثرات السلبية.
ـ إدخال مقررات توعوية: تتعلق بالصحة النفسية والسلامة العقلية ضمن المناهج التربوية، إضافة إلى أنشطة تثقيفية داخل المدارس.
ـ إنشاء وحدات دعم خاصة: مهمتها متابعة الحالات التي تحتاج إلى تدخل فوري وتقديم استشارات نفسية واجتماعية متخصصة.
المتحدث باسم الوزارة كريم السيد أوضح أن الهدف من هذه الخطة هو تحصين الطلبة من المؤثرات السلبية على المستويات الذهنية والصحية والبدنية، مؤكداً أن العام الحالي سيشهد تطبيقاً تدريجياً لهذه الإجراءات في عموم المحافظات.
آراء الباحثين والمختصين: بين التفاؤل والحذر
الباحثة الحقوقية أنوار الخفاجي اعتبرت أن أحداث العام الماضي كانت بمثابة "جرس إنذار خطير" كشف هشاشة البيئة التعليمية في العراق. وأكدت أن تعامل الوزارة مع الملف بجدية خطوة إيجابية، لكن الطريق ما زال طويلاً بسبب غياب الأدوات العملية للرصد المبكر للحالات النفسية داخل المدارس.
من جهتها، أوضحت الباحثة الاجتماعية وداد الجميلي أن غياب المرشد التربوي أضعف التواصل بين الطلبة والمعلمين، وأفقد المدرسة قدرتها على توجيه السلوكيات بشكل سليم. وشددت على أن المرشد ليس مجرد موظف إداري، بل عنصر فاعل في بناء شخصية التلميذ وتنمية مهاراته الاجتماعية والنفسية.
أما المسؤول التربوي ياسين المشهداني، فأكد أن انتشار ظواهر مثل التنمر، العنف، التدخين، وأحياناً المخدرات بين الطلبة، هو نتيجة مباشرة لغياب منظومة إرشاد فعّالة. وأضاف أن هذه السلوكيات لم تكن لتنتشر بهذا الشكل في الماضي، حين كان دور الإرشاد أكثر وضوحاً وتأثيراً.
الضغوط المزدوجة: المدرسة والأسرة
يرى مختصون أن الطلبة العراقيين يعيشون تحت منظومتين من الضغط: الأولى داخل المدرسة، حيث المناهج الثقيلة والامتحانات النهائية التي تحدد مستقبلهم، والثانية داخل الأسرة، التي تربط النجاح الدراسي حصراً بالحصول على وظيفة حكومية، في ظل غياب فرص حقيقية في القطاع الخاص.
هذه الضغوط تجعل الطالب يشعر أن مستقبله كله مرهون بالنجاح في الامتحانات، وأن أي فشل سيعني ضياع مستقبله، ما يدفع البعض إلى الانهيار النفسي وربما التفكير بالانتحار.
وفي ظل معدل بطالة يتجاوز 25% بين الشباب، يضاعف غياب البدائل الاقتصادية من قلق الطلبة، ويحوّل التعليم من وسيلة تطوير إلى وسيلة بقاء، أي محاولة للهروب من الفقر والبطالة.
منذ سنوات، تراجع حضور "الإرشاد التربوي" داخل المدارس العراقية حتى كاد يختفي تماماً. هذا الغياب كشف فراغاً كبيراً في التواصل بين المدرسة والطلبة، وبين إدارة المدرسة وأولياء الأمور.
التقصير لم يكن وليد اللحظة؛ إذ إن وزارة التربية كثيراً ما تتحجج بنقص الكوادر المتخصصة أو ضعف الموازنات المالية، إضافة إلى غياب تشريعات واضحة تنظم عمل المرشدين التربويين.
ومع ذلك، يرى باحثون أن الحل لا يكمن فقط في زيادة أعداد المرشدين، بل في إعادة بناء المؤسسات التربوية بشكل يدمج الإرشاد النفسي والاجتماعي في صلب العملية التعليمية، ويمنح المرشد مكانة ودوراً أساسياً لا ثانوياً.
كما تؤكد تقارير تربوية أن السلوكيات السلبية والمنحرفة تتصاعد بشكل ملحوظ في المدارس العراقية. وتشمل هذه السلوكيات: التنمر والعنف اللفظي والجسد، واستخدام العبارات البذيئة والتصرفات العدوانية، والتدخين وأحياناً تعاطي المخدرات، وممارسات مرتبطة بالتكنولوجيا مثل تصوير داخل الصفوف ونشر مقاطع ساخرة على وسائل التواصل.
هذه السلوكيات ليست مجرد تصرفات عابرة، بل تعكس غياباً تربوياً واضحاً. فغياب المرشد يعني غياب الرقابة المبكرة على التغيرات السلوكية للطلبة، ما يسمح بانحراف هذه التصرفات دون معالجة.
المسؤول التربوي المشهداني شدد على أن المرشد التربوي يستطيع ملاحظة هذه السلوكيات مبكراً والتعامل معها قبل أن تتحول إلى مشاكل أكبر، لكنه غير موجود فعلياً في معظم المدارس.
ورغم إعلان الوزارة عن خطتها الجديدة، يواجه الملف تحديات معقدة، أبرزها:
ـ نقص الكوادر المؤهلة: عدد المرشدين التربويين غير كافٍ لتغطية آلاف المدارس في العراق.
ـ ضعف التمويل: الموازنات المالية المخصصة للإرشاد محدودة جداً.
ـ غياب التشريعات: لا توجد قوانين واضحة تحدد مهام المرشد التربوي وصلاحياته.
ـ المجتمع نفسه: النظرة المجتمعية السلبية أحياناً تجاه الصحة النفسية قد تُعيق نجاح الخطة.
ـ الضغوط الاقتصادية: استمرار البطالة والاعتماد على الوظائف الحكومية يزيد من الضغوط على الطلبة، ما يجعل أي خطة تربوية بحاجة إلى تكامل مع خطط اقتصادية واجتماعية.
ويرى الباحث جبار المطلك أن المرحلة الحالية تتطلب إعادة إحياء الإرشاد التربوي بوصفه "ضرورة وطنية لا يمكن تأجيلها". وأوضح أن المدرسة لم تعد مكاناً للتعليم فقط، بل فضاءً لتشكيل وعي الأجيال اجتماعياً ونفسياً.
وحذّر من أن أي إهمال في هذا المجال سيؤدي إلى تفاقم السلوكيات السلبية بين التلاميذ، ما ينعكس سلباً على المجتمع ككل. وطالب بتعيين مرشدين تربويين مؤهلين أكاديمياً ومهنياً، وتزويدهم ببرامج تدريبية متطورة تتناسب مع التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية.
ولتحقيق نقلة نوعية في هذا الملف، يقترح خبراء عدداً من الخطوات العملية، إعادة تفعيل مكاتب الإرشاد التربوي في كل مدرسة، وإدخال مادة "الصحة النفسية" كمقرر أساسي، وتعيين مرشدين متخصصين في علم النفس والتربية، وتدريب الكوادر التعليمية على مهارات التواصل والاحتواء النفسي، وإشراك الأسرة في برامج توعية دورية حول التعامل مع الضغوط الدراسية، بالإضافة الى توفير خطوط ساخنة للدعم النفسي للطلبة.
هذه الإجراءات، إذا ما نُفذت بجدية، قد تُحدث تحولاً ملموساً في بيئة التعليم وتُعيد للمدرسة دورها التربوي الكامل.
في النهاية يمكن القول إن ما يواجهه التعليم العراقي اليوم لا يقتصر على أزمة مناهج أو نقص في البنية التحتية، بل يمتد إلى عمق نفسي واجتماعي يهدد الطلبة في صميم حياتهم. خطة وزارة التربية لحماية الصحة العقلية للطلبة خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها لن تنجح ما لم تُدعَم بإرادة سياسية حقيقية وتمويل كافٍ وتشريعات واضحة.
المدرسة ليست مكاناً للتلقين فقط، بل فضاء لبناء الإنسان. وإذا بقي الإرشاد التربوي مجرد وظيفة شكلية، فإن الطلبة سيبقون في مواجهة مباشرة مع ضغوط أكبر من قدرتهم على الاحتمال. وعليه، فإن إحياء هذا الدور وتحويله إلى ممارسة فاعلة هو السبيل الوحيد لإنقاذ الأجيال من الانهيار، وضمان مستقبل تربوي وصحي أكثر أمناً وعدلاً.
