حلم "الحزام الأخضر" لبغداد يواجه مصيراً مجهولاً.. هل ينجو المشروع البيئي من العطش والفساد؟
انفوبلس/ تقرير
بين موجات الغبار التي تخنق العاصمة العراقية بغداد، والتلوث الذي يتصدر قوائم المدن العالمية، يقف مشروع "الحزام الأخضر" كحلم بيئي طال انتظاره، لكنه ما زال يراوح مكانه بين الطموحات الحكومية والعقبات الواقعية.
فبينما تؤكد أمانة بغداد أنها قطعت شوطاً في البنية التحتية وزراعة مئات آلاف الأشجار، يحذر خبراء بيئيون من أن المشروع قد يلقى مصيراً مشابهاً لغيره من المشاريع التي أُعلنت ثم تعثرت، بسبب نقص المياه وسوء الإدارة وغياب الاستمرارية.
على مدى قرون، كانت العاصمة العراقية محاطة بأحزمة طبيعية من البساتين والحقول الزراعية، التي شكّلت حائط صدّ ضد الرياح القادمة من صحارى الأنبار جنوباً والنجف والمثنى غرباً، فضلاً عن دورها في تلطيف المناخ المحلي.
لكن التوسع العمراني غير المنظم، وتجريف البساتين، وتحويل الأراضي الزراعية إلى مجمعات سكنية ومشاريع استثمارية، أفرغ محيط بغداد من غطائه النباتي. يقول الخبير البيئي أحمد حسن: "حتى قبل ثلاثة عقود فقط، كانت البساتين تحيط ببغداد من كل الجهات. اليوم تحولت إلى أطلال جرداء بفعل الحروب والإهمال والفساد".
فكرة الحزام الأخضر
المشروع ليس جديداً. فقد طُرحت فكرة الحزام الأخضر حول بغداد في سبعينيات القرن الماضي، كجزء من مبادرة عربية بدعم من منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) لمكافحة التصحر. لكن الحرب العراقية – الإيرانية ثم حرب الخليج الأولى، أجهضتا تلك الجهود.
عاد المشروع إلى التداول قبل نحو 15 عاماً، غير أن سلسلة من العقبات ـ من بينها صعوبات تملّك الأراضي، واختيار أنواع الأشجار، واتهامات بالفساد ـ عطلت التنفيذ. واليوم تحاول أمانة بغداد إحياءه من جديد بزراعة نحو 250 ألف شجرة معمّرة باستخدام مياه الصرف الصحي المعالج، على مساحة تقارب 900 دونم.
يقول الخبير في الشأن البيئي وعضو مرصد "العراق الأخضر"، عمر عبد اللطيف، إن مشروع الحزام الأخضر حول بغداد كان من المفترض أن يرى النور قبل خمسة عشر عاماً، "غير أن سلسلة من العقبات ـ من بينها امتلاك الأراضي واختيار الأشجار، فضلاً عن شبهات الفساد ـ عطّلت التنفيذ"، على حدّ قوله.
يضيف "أمانة بغداد عادت اليوم لتطرح المشروع من جديد باستخدام المياه المعالجة، لكن المرصد يتوقع أن يواجه مصيراً محفوفاً بالفشل في ظل شح المياه الذي تعانيه البلاد". ويوضح: "العراق وصل إلى مرحلة ندرة مائية، والوزارات المعنية تركز جهودها على تأمين مياه الشرب للمواطنين، فكيف يمكن سقي آلاف الأشجار المفترض أن تشكل الحزام الأخضر؟".
ويؤكد عبد اللطيف أن فوائد الحزام الأخضر ليست هامشية، إذ يشكل مصداً للعواصف الغبارية والرملية التي تنهك سكان بغداد، لكنه يشير إلى أن الأشجار تحتاج ما لا يقل عن عشر سنوات من الرعاية المنتظمة قبل أن تؤدي دورها. ويتابع: "المشكلة الكبرى تكمن في الإهمال"، لافتاً إلى أن التجارب السابقة أثبتت أن أي منظومة سقي أو عناية معرضة للتخريب وغياب المتابعة، ما يعني أن مصير المشروع قد يكون موت الأشجار وانهياره بالكامل.
ويوضح الخبير البيئي، أن المرصد اقترح حلولاً عملية، من بينها اعتماد تقنيات ري حديثة تقلل الهدر وتوفر لكل شجرة حاجتها فقط، إلى جانب زرع أنواع معمرة قادرة على التكيف مع مناخ العراق وتعيش لعقود طويلة. لكنه يشدد على أن هذه المعالجات تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتمويلاً مدروساً.
وأكد أن المرصد يشجع مشروع الحزام الأخضر لأنه "حلم بيئي مهم لبغداد، لكنه محفوف بالعقبات"، مشيراً إلى أن "استمرار أزمة المياه يهدد حياة الأشجار ومستقبل المدينة، وما لم تُعالج هذه التحديات بجدية، فإن المشروع لن ينجح، تماماً كما فشلت مشاريع مشابهة".
تأثير اختفاء الغطاء الأخضر لا يقتصر على البيئة فحسب، بل يطال الصحة والاقتصاد أيضاً. إذ ان العواصف الغبارية التي تضرب العراق بشكل متكرر تسبّب خسائر تقدر بمليون دولار يومياً، تشمل الأضرار في البنية التحتية والقطاع الزراعي. وزارة الصحة تتحمل الجزء الأكبر من هذه الكلفة عبر علاج أمراض الجهاز التنفسي. وبحسب المرصد الأخضر، يضطر الكثير من المرضى إلى البقاء في منازلهم وشراء أجهزة تنفس بدلاً من الذهاب إلى المستشفيات.
من ناحية أخرى، كشف موقع "نمبيو" أن كل عراقي يحتاج إلى 75 شجرة لتوفير حاجته من الأوكسجين، بينما لا تتجاوز المساحة الخضراء المخصصة للفرد في العراق 0.2 دونم، مقارنة بالمعدل العالمي البالغ 12 دونماً.
كما المؤشرات العالمية تضع بغداد في صدارة المدن الأكثر تلوثاً. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2024، كشف موقع "IQAir" أن العاصمة العراقية تجاوزت مدناً مثل لاهور ودلهي والقاهرة، لتتصدر القائمة.
هذا التلوث المديني، مقترناً بموجات الحر غير المسبوقة التي وصلت إلى 55 درجة مئوية في بغداد والبصرة، يجعل الحاجة إلى مشروع الحزام الأخضر أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
وشهد العراق موجة حر تجاوزت درجات الحرارة فيها المعدلات المعتادة، إذ سجلت بغداد والبصرة أكثر من 55 درجة مئوية، ما أدى إلى ضغوط كبيرة على توفير الكهرباء والمياه، فيما تشير التقديرات إلى انخفاض ملموس في نصيب الفرد من المياه. وحذرت وزارة الموارد المائية في بيان سابق، من أن العام الحالي هو الأخطر منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حيث انخفضت الإيرادات المائية بنسبة 73% مقارنة بالعام الماضي في حوضي دجلة والفرات.
كل ذلك يعدّ تهديداً حقيقياً لخطط التشجير وحماية بغداد بسور أخضر، وفق ما يقوله الخبير البيئي أحمد حسن، مبيناً أن العاصمة العراقية لم تعد تحتمي بأحزمتها الخضراء كما في الماضي. ويلفت إلى أن بغداد حتى قبل ثلاثة عقود كانت تحيطها البساتين من جميع الجهات.
وأوضح أن "هذه البساتين كانت تشكل درعاً طبيعية تصدّ الغبار والرياح. اليوم، تحولت إلى أطلال مقطعة بفعل الحروب والتوسع العمراني والتصحر والإهمال الحكومي، ففقدت بغداد رئتها البيئية التي كانت تمنحها هواءً نقياً ومنتجعاً ومتنفساً مجانياً للعائلات". يضيف حسن أنه منذ منتصف القرن العشرين، بدأت مساحات الحزام الأخضر تتآكل مع النمو السكاني والهجرات إلى العاصمة، ويستدرك: "لكن كانت هناك قوانين تضبط إيقاع هذا التوسع تمنع تحويل الأراضي الزراعية إلى مناطق سكنية أو حتى إهمالها مما يحافظ على الحزام الأخضر".
من جهته، يحمّل الباحث في الشأن البيئي، حسين النداوي، المسؤولية للجهات الرسمية، مبيناً أنه "منذ عام 2003 شهدنا تحولاً بشعاً في الحزام الأخضر". ويشير النداوي إلى ما يصفه بـ"الخطوات الحكومية الخطيرة وغير المدروسة التي سمحت بتحويل الأراضي الزراعية إلى سكنية، تضاف إلى ذلك عمليات تجريف بساتين محيط بغداد في إطار عمليات مكافحة الجماعات الإرهابية، ما تسبب بتحويل الحزام الأخضر إلى تجمعات سكنية أو أرض جرداء"، ويواصل: "نتيجة ذلك كانت كارثية؛ إذ تحول سكان بغداد اليوم إلى ضحايا للعواصف الغبارية والتلوث بعدما فقدت العاصمة توازنها البيئي".
ويصف الخبير البيئي التصريحات الصادرة عن أمانة بغداد حول مواصلتها زراعة الأشجار في محيط العاصمة بأنها "مبشرة، لكنها تحتاج إلى اهتمام مستمر وعمل حقيقي، فهناك العديد من المشاريع التي تنجزها مؤسسات الدولة تتخللها عمليات فساد فتفشلها رغم إنفاق مبالغ كبيرة عليها".
لكن يصف المختص في إدارة الأزمات علي الفريجي الوضع بأنه "كارثة بيئية متكاملة"، مبيناً أن الإجراءات الحكومية ما زالت عشوائية ولا تستند إلى استراتيجية طويلة الأمد. ويضيف: "غياب الإرادة الجادة والتنسيق بين المؤسسات هو ما يجعل مشروع الحزام الأخضر مهدداً بالفشل".
ويضرب التغير المناخي العراق بقوة خلال الأعوام القليلة الماضية وبصورة غير معهودة، حيث يعد خامس الدول الأكثر تضررا من التغيرات المناخية العالمية، وفق وزارة البيئة العراقية والأمم المتحدة. كما يفقد العراق سنويا 100 ألف دونم، جراء التصحر، كما أن أزمة المياه تسببت بانخفاض الأراضي الزراعية إلى 50 في المائة وفق تصريحات رسمية.
وبناءً على تقديرات منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" التابعة للأمم المتحدة، فقد باتت مساحات الغابات في العراق لا تشكل سوى 8250 كيلومترا مربعا، أي ما نسبته 2% من إجمالي مساحة البلاد.
والخلاصة، فإن مشروع "الحزام الأخضر" يقف اليوم عند مفترق طرق: إما أن يتحول إلى نموذج ناجح يعيد للعاصمة العراقية رئتها البيئية، أو أن يكون مجرد حلقة جديدة في سلسلة الوعود البيئية غير المنجزة.
وبينما يتفق الخبراء على أهمية الفكرة، إلا أنهم يحذرون من أن نجاحها مرهون بتأمين المياه، ومحاربة الفساد، وتوفير رعاية طويلة الأمد للأشجار. وإلا فإن بغداد ستبقى عرضة لعواصف الغبار والحر القاتل، فاقدة لأحزمتها الطبيعية التي شكلت يوماً هويتها البيئية.

