حين يبتلع المجهول أبناء العراق: هجرة بلا أمل وموت يُباع بالتقسيط في سوق الشبكات السوداء
انفوبلس/..
على الطرق الموحلة الممتدة من رابرين إلى البحر، ومن السليمانية إلى شواطئ إزمير، تتكرر الحكاية نفسها: شباب يتركون بيوت الطفولة، يودّعون أمهاتهم بدمعةٍ خجولة، ويغيبون خلف ستار المجهول. بعضهم يصل، وبعضهم لا يُعرف له أثر، فيما تبقى البلاد تودّع أبناءها بصمت، كأنها تعتاد الفقد جيلاً بعد جيل.
وثّقت شبكات استقصائية في تحقيقات موسّعة أن إقليم كردستان وحده شهد منذ عام 2014 هجرة أكثر من 148 ألف شاب، فقد منهم 414 شخصاً حياتهم غرقاً أو في الصحارى، فيما اختفى آخرون من دون أثر. أرقام تقطر وجعاً وتختصر عمق الكارثة، إذ لم تعد الهجرة في العراق خياراً فردياً أو مغامرة شخصية، بل تحوّلت إلى أزمة هيكلية تُنتجها بيئة طاردة وأفق سياسي مسدود، يختنق فيه الحلم قبل أن يولد.
جيل بلا وطن.. ووطن يفرّ من شبابه
الأرقام تشير إلى أن معدل الهجرة خلال الأشهر الأخيرة في كردستان بلغ نحو 300 إلى 400 شاب أسبوعياً، من مناطق مثل رابرين والسليمانية ودهوك. هذا النزيف البشري لم يعد مرتبطاً فقط بالفقر أو البطالة، بل بغياب العدالة الاجتماعية، وتعطل البرلمان والحكومة، وانسداد الأفق أمام الشباب الباحثين عن فرصة أو معنى.
تقول النائبة السابقة منار عبد المطلب: “الشبكات السوداء تستغل يأس الشباب العراقي وتدفعهم نحو المجهول، وهنالك من يبيع بيته أو أرضه فقط ليحجز مقعداً في قارب مطاطي أو شاحنة تهريب.”
عبارتها ليست مجازاً؛ فهؤلاء الشباب لا يهاجرون، بل يُساقون إلى مصيرٍ يشبه الموت بالتقسيط. تُستنزف أموالهم، تُباع أحلامهم، ثم يُتركون في منتصف الطريق بين الصحراء والبحر، لا عودة ولا وصول.
الموت في الصحراء الليبية.. والبحر كمقبرة جماعية
في مارس 2024، أعلنت المنظمة الدولية للهجرة العثور على 65 جثة لمهاجرين في مقبرة جماعية بالصحراء الليبية، كثير منهم قضوا عطشاً وجوعاً. وفي يوليو 2025، احتجزت السلطات الليبية ستة شباب أكراد أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، بينما أكدت السفارة العراقية في أغسطس من العام نفسه أنها أعادت 25 شاباً كردياً كانوا محتجزين في مراكز احتجاز ليبية.
ليبيا، التي كانت في الماضي محطة عبور، تحولت اليوم إلى ثقب أسود يبتلع الشباب الهاربين من بطالة الداخل إلى صحراء لا ترحم. أما البحر، فقصته أكثر قسوة: مئات العراقيين غرقوا في بحر إيجه منذ عام 2015، بينهم عائلة عراقية كاملة فقدت حياتها عام 2021 أثناء محاولتها الوصول إلى جزيرة يونانية. تحوّل الحادث إلى رمز لمآسي الهجرة غير الشرعية، وأيقونة لفشل الدولة في احتواء شبابها.
من تركيا إلى أوروبا.. رحلة الأمل التي تبتلعها الأمواج
تُعد تركيا اليوم البوابة الأخطر للعراقيين، يدخلونها عبر تأشيرات سياحية أو بطرق تهريب، ثم يتجمعون في مدن ساحلية مثل إزمير وبودروم، بانتظار لحظة العبور نحو الجزر اليونانية. هناك، تتحوّل القوارب المطاطية إلى توابيت عائمة، وتصبح الأمواج حَكماً بين الحياة والموت.
تقول عبد المطلب إن “هذه الشبكات السوداء تقف وراء مآسٍ كثيرة، فبعضهم يُرمى في البحر عمداً عندما يقترب خفر السواحل، وآخرون يُتركون في عرض المياه دون وقود.” شهادات تتطابق مع تقارير منظمات دولية تصف بحر إيجه بأنه “مقبرة المهاجرين الصامتة”.
شبكات عابرة للحدود.. وجذور محلية
لكن الكارثة لا تنتهي عند حدود ليبيا أو تركيا؛ فالشبكات التي تدير هذه الرحلات تمتلك امتدادات داخلية في العراق. بعضهم يعمل تحت غطاء شركات سفر أو وسطاء محليين يوهمون الشباب بفرص عمل مضمونة أو طرق “آمنة” إلى أوروبا.
هنا يصبح السؤال الذي طرحته عبد المطلب مشروعاً: هل توجد أدوات داخلية تدفع الشباب نحو المجهول؟
الإجابة تأتي من مختصين يرون أن المنظومة الاقتصادية والسياسية نفسها باتت شريكاً في إنتاج الهجرة، فحين تنعدم فرص العمل، ويتحوّل التعليم إلى شهادة بلا جدوى، وتغيب العدالة عن مؤسسات الدولة، تصبح الهجرة النتيجة الطبيعية لمنظومة فاشلة، لا تسأل عن مصير أبنائها.
الهروب من البطالة.. إلى القبور الجماعية
في شوارع السليمانية ودهوك، يمكن سماع القصص بسهولة: شاب باع هاتفه ليكمل ثمن “التنظيم”، وآخر جمع مدخرات أهله ليصل إلى تركيا، وثالث عاد بعد أن ضُرب وسُجن في ليبيا. الجميع يشترك في شيء واحد: إحساس عميق بالخذلان من وطنٍ لم يمنحهم سوى الانتظار.
يقول أحد الناشطين المحليين: “الهجرة بالنسبة للشباب صارت مشروع حياة، مو قرار مؤقت. كل يوم أكو شباب يطلعون، بعضهم يسافر حتى بدون ما يخبر أهله.”
هذه الشهادات تحوّل الأرقام الجافة إلى وجوه حقيقية، تُغادر الوطن في صمت، فيما تتكدس جثثهم في البحر أو الصحراء، دون أن يسأل أحد: من المسؤول عن هذا النزيف؟
نزيف الكفاءات.. وانهيار الحلم الوطني
تحذيرات الخبراء تتجاوز الجانب الإنساني إلى خطر بنيوي على مستقبل الدولة العراقية. فهجرة الكفاءات والأدمغة لا تقل خطورة عن هجرة العمالة. يقدّر اقتصاديون أن استمرار هذا النزيف سيؤدي إلى خسارة العراق لجيلٍ كاملٍ من طاقاته الشبابية، وهو ما يهدد التنمية الوطنية ويُضعف موقع العراق في خريطة المستقبل.
الباحث الاقتصادي أحمد القريشي يحذر من أن “العراق يدفع أثماناً باهظة نتيجة هجرة المهندسين والأطباء والمبرمجين”، مؤكداً أن “النزيف لم يعد ظاهرة اجتماعية بل تهديداً استراتيجياً للأمن الاقتصادي”.
سياسات عمياء.. وأفق مسدود
في المقابل، لا يبدو أن الطبقة السياسية تعي حجم المأساة. لا توجد برامج واضحة لتشغيل الشباب، ولا خطط جادة لإصلاح النظام الاقتصادي. وتستمر الحكومات بإطلاق وعود موسمية ومبادرات قصيرة النفس، في وقتٍ يتزايد فيه الإحباط، ويُغلق الأفق أمام أي حلم بالبقاء.
المفارقة أن الشباب الذين يُفترض أن يكونوا عماد المستقبل، صاروا اليوم أكثر ميلاً للمغادرة من أي وقتٍ مضى. بحسب استطلاعات دولية، يتمنى أكثر من نصف الشباب العراقيين الهجرة الدائمة من البلاد، وهي نسبة غير مسبوقة حتى مقارنة بالدول التي تشهد حروباً مفتوحة.
هجرة بلا ضوء في آخر النفق
تبدو دعوات عبد المطلب لإطلاق حملات توعية للشباب مجرد خطوة أولى في طريق طويل. فالمشكلة ليست في “عدم وعي الشباب”، بل في غياب الأمل. الوعي وحده لا يكفي إذا كانت الدولة لا توفر بديلاً، ولا تملك رؤية اقتصادية جادة.
كل عائلة في كردستان والعراق عموماً تعرف شخصاً هاجر أو يفكر بالهجرة، وكل بيت يحمل ذكرى فتى غرق أو فُقد أو لم يعد بعد.
حين يصبح الموت طريقاً إلى الحياة
في نهاية الحكاية، لا يبقى من الصورة سوى حقيبة صغيرة، وصورة أمّ تبكي على باب بيتها، وسماء بعيدة تلوّح بمستقبل مجهول.
الهجرة العراقية ليست مجرّد مأساة عابرة، بل تعبير عن وطنٍ يُهاجر من داخله قبل أن يهاجر أبناؤه.
وما لم تُفتح نوافذ الإصلاح الاقتصادي والسياسي على مصراعيها، سيبقى البحر يبتلع أحلام الشباب، وتبقى الصحراء شاهدة على وطنٍ أضاع أبناءه بين الفقر واليأس والموت المجاني.
