ظاهرة الطائرة الشبحية في صحراء الوركاء: من لغز أثار الرأي العام إلى كشف الحقيقة العلمية

انفوبلس/ تقرير

خلال الساعات الماضية، شهدت منصات التواصل الاجتماعي في العراق موجة واسعة من الجدل، عقب انتشار صور ملتقطة عبر خدمة Google Earth تُظهر ما بدا أنها طائرة مدنية متوقفة وسط صحراء الوركاء بين محافظتي ذي قار والمثنى، في منطقة نائية لا تحتوي على مدارج هبوط ولا أي منشآت جوية. 

الصورة التي جرى تداولها على نطاق واسع ولّدت تساؤلات حادة، ودفعت البعض إلى بناء تفسيرات تتراوح بين فرضيات تحطم طائرة غير موثقة، وصولاً إلى احتمالات وجود منشآت سرية، مروراً بقصص أقرب للخيال الشعبي. 

غير أن التطورات اللاحقة، والتدقيق الفني الذي أجري على الصور عبر منصات متعددة، سرعان ما حسم هذه الرواية، كاشفاً عن خلفية تقنية معقدة تُعرف بما يسمى "ظاهرة الطائرة الشبحية" أو Ghost Aircraft.

هذا التحقيق يتناول القصة من بدايتها، منذ اللحظة التي اكتشف فيها مستخدم خرائط غوغل الطائرة المزعومة، مروراً بالتحليلات التي انهالت من المختصين والعامة، وانتهاءً بالموقف الرسمي الذي وضع النقطة الأخيرة في هذا الجدل. كما يستكشف التقرير كيف تتحوّل صورة واحدة إلى مادة نقاش وذعر وفضول، وكيف تلعب المنصات الرقمية دوراً محورياً في صناعة الأخبار، وأحياناً تضخيمها.

الاكتشاف الأول: طائرة في قلب الصحراء

البداية كانت مع باحث آثار كان يتصفح خرائط غوغل لاستكشاف محيط مدينة الوركاء التاريخية، حين ظهر له هيكل طائرة مدنية عند الإحداثيات: 31°20'14"N 45°39'14"E، لتبدأ بعدها سلسلة من التساؤلات: كيف وصلت طائرة بهذا الحجم إلى منطقة لا تمتلك مطاراً؟، هل وقع تحطم طائرة ولم يُعلن عنه؟، هل يجري استخدام الطائرة لغرض عسكري أو تدريبي؟، هل تم نقلها براً؟ وإن كان كذلك، لِمَ؟ ومن؟

لم يزد الغموض إلا بظهور تفاصيل إضافية حول الصورة. بحسب صفحات متخصصة بالطيران حلّلت الشكل العام للطائرة، تبين أن أبعادها قريبة جداً من طائرات إيرباصA320، وهي طائرة مدنية ضيقة البدن تُستخدم أساساً للرحلات التجارية المتوسطة المدى. هذا التوصيف عزز فرضية أنها ليست طائرة صغيرة أو نموذجية، بل جسم حقيقي بكامل هيكله.

ولم تتوقف التساؤلات عند هذا الحد. أشار تحليل الأرشيف إلى أن الصورة لم تكن موجودة قبل 30 نيسان 2021. الأمر الذي زاد من غموضها، إذ بدا وكأن الطائرة ظهرت فجأة في السنوات الأخيرة دون أي سجل أو حادث أو تقارير موازية.

فقاعة التفسيرات الشعبية: من التحطم السري إلى النظريات الفلكلورية

دون أي تأكيد رسمي، انطلقت موجة من الاجتهادات منها فرضية التحطم غير المعلن، إذ بعض المدونين قالوا إن الطائرة ربما سقطت في منطقة نائية ولم يتم توثيق الحادث إعلامياً لأسباب أمنية أو سياسية. وفرضية النقل البري، حيث ان آخرون رجّحوا أن الطائرة نُقلت إلى الصحراء لتُستخدم كمخزن، أونقطة مراقبة، أو موقع تدريبي، أو ديكور لفيلم!

هذه فرضيات قد تبدو مستبعدة، لكن العراق شهد سابقاً وضع هياكل طائرات في مناطق ريفية لاستخدامات متعددة. 

وبلغت بعض التعليقات حد المزاح والسخرية، فذهب البعض للقول إن الطائرة مرتبطة بكائنات فضائية أو قاعدة سرية. هذه التأويلات تُعطي مثالاً صارخاً على كيف تلعب الصورة غير المؤكدة دور الشرارة في إشعال الخيال الشعبي. 

تدخل المختصين: تبديد الضباب

التحليل العلمي الأول جاء من صفحة "تلسكوب العراق"، وهي جهة متخصصة بالرصد والتحليل الفلكي. وبعد مراجعة مستقلة لبيانات الأقمار الصناعية من: ArcGIS و Bing Maps و Zoom Earth تبين أن الطائرة لا تظهر إلا في لقطة واحدة فقط ولا تظهر في الصور اللاحقة ولا السابقة ولا تظهر في أي مصدر آخر غير صورة واحدة من Google Earth".

وأوضحت أن "هذا يعني ببساطة أن ما ظهر في الصورة ليس طائرة واقفة على الأرض بل هو ما يعرف بظاهرة الطائرة الشبحية". 

وشرحت الصفحة أنه "أحياناً تلتقط الأقمار الصناعية طائرة عابرة في الجو أثناء مرورها فوق المنطقة وتظهر في الصورة وكأنها على الأرض، لأن القمر الصناعي يصور لقطة ثابتة في جزء من الثانية، ومجرد تغير الصورة في التحديث التالي يجعل الطائرة تختفي تماماً، وهذا الأمر شائع وتوجد آلاف الصور في مختلف دول العالم مثل هذه الحالة".

التحقق التقني من جهة محايدة

منصة "التقنية من أجل السلام" دخلت على خط التحقق، وأجرت مراجعة تقنية دقيقة شملت: إدخال الإحداثيات في خرائط غوغل، العودة لتواريخ الصور السابقة، البحث عن سجلات تحطم الطائرات في العراق خلال 2021 و2025وتوصلت لنتائج مطابقة، أهمها: الصورة التقطت في 12 نيسان 2025، وفي 30 نيسان 2021 لم يكن هناك أي طائرة في الموقع، والطائرة سليمة وغير متضررة، ما ينفي فرضية التحطم، ولا وجود لأي حادث طيران بهذه المواصفات في العراق. 

الضربة الحاسمة: بيان وزارة النقل

لتنهي الجدل، أصدرت وزارة النقل بياناً رسمياً قالت فيهانه لا وجود لطائرة على الأرض في الموقع المذكور، وما ظهر هو نتيجة ظاهرة تصوير فضائي تُظهر الأجسام الجوية وكأنها على الأرض بسبب التقاط صورة في جزء من الثانية.

وذكرت الوزارة في البيان ان "بعض مواقع التواصل الاجتماعي تداولت خلال الساعات الماضية صوراً التُقطت عبر Google Earth تُظهر ما بدا وكأنه طائرة مركونة في منطقة صحراوية قرب الوركاء في صحراء السماوة، الأمر الذي أثار تساؤلات عديدة واستفهامات حول طبيعة هذا الجسم ومصدره، وبهدف الوقوف على الحقيقة، جرى التدقيق في الصور عبر منصّات متعددة لصور الأقمار الصناعية مثل ArcGIS وBing Maps وZoom Earth، وقد بيّنت عملية المراجعة الفنية والمعاينة بأن الصورة التي ظهرت فيها الطائرة هي لقطة واحدة فقط ضمنGoogle Earth، ولا يوجد لها أي أثر في الصور السابقة أو اللاحقة، كما لا تظهر في أي مصدر فضائي آخر خارج تلك اللقطة المفردة".

وأضافت ان "هذا النمط من الظهور الأحادي يشير بشكل واضح إلى ما يُعرف بـظاهرة “الطائرة الشبحية” أو(Ghost Aircraft)، وهو حدث شائع في تصوير الأقمار الصناعية وتحدث هذه الظاهرة عندما يلتقط القمر الصناعي صورة ثابتة في لحظة مرور طائرة حقيقية في الجو فوق المنطقة، فتبدو وكأنها جاثمة على الأرض، بينما هي في الحقيقة طائرة عابرة في ارتفاع شاهق، التُقط ظلّها أو صورتها خلال جزء من الثانية".

وأشارت الى أنه "عند تحديث الصورة الفضائية أو استبدالها، تختفي الطائرة تماماً، مما يؤكد أنها لم تكن على الأرض أساساً"، مبينة ان "مثل هذه الظواهر تُسجَّل في آلاف المواقع حول العالم، وهي نتيجة طبيعية لحركة الطائرات في الأجواء أثناء عمليات التصوير الفضائي المستمرة".

وأكدت الوزارة، بحسب البيان، أنه "لا وجود لطائرة على الأرض في الموقع المذكور، وما ظهر ليس سوى صورة عابرة لطائرة في الجو، التقطها القمر الصناعي الخاص بـ Google في لحظة محددة فقط ضمن الحركة الجوية الطبيعية". ودعت الوزارة المواطنين ومستخدمي منصّات التواصل "توخي الدقة قبل تداول مثل هذه المعلومات، والاعتماد على المصادر الموثوقة والبيانات الفنية المدققة".

كيف تتحول صورة إلى قضية رأي عام؟

يمكن تفسير انتشار الموضوع وفق ثلاثة عوامل، أولها الفضول البشري، أذ ان الإنسان بطبيعته يستجيب للأحداث "غير المكتملة"، وكلما زاد الغموض زاد الانجذاب. وثانيا خصائص الفضاء الرقمي، حيث ان منصات التواصل لا تمنح الوقت للتأكد، بل تخلق ديناميكية: صورة → مشاركة → سرديات → فوضى معلومات. وثالثا غياب المصدر الرسمي السريع، حيث ان التأخر في التوضيح يفتح الباب لتشكّل الرواية الشعبية. 

لماذا تظهر الطائرات بهذه الصورة؟

تعتمد الأقمار الصناعية على مسارات ثابتة، وتصوير متتابع ولحظات عشوائية من الالتقاط، إذا صادف مرور طائرة أثناء التصوير، تظهر في الصورة كما لو كانت ملتصقة بالأرض. 

يحدث أحياناً أن يظهر ظل الطائرة، وتتعدد ألوانها بسبب فصل القنوات الضوئية، ويبدو شكلها مشوهاً أو مكرراًوهذا ما يجعلها "شبحية".

القصة لم تكن عن طائرة، بل عن كيف نرى الأشياء، وكيف نمنح الصورة معنى أكثر مما تحتمل، وكيف تتحوّل التقنية من أداة معرفة إلى محفز للجدل.

وفي النهاية يمكن القول ان ما جرى في صحراء الوركاء لا يتعلق بطائرة على الأرض، بل بطائرة في السماء التقطت صورتها الأقمار الصناعية في لحظة عابرة. غير أن الصخب الذي صاحب القصة كشف عن أمر آخر أكثر أهمية: المجتمع اليوم لا ينتظر الحقيقة، بل يصنعها بمجرد تداولها.

تلك الدروس الرقمية أصبحت اليوم جزءاً من الواقع الإعلامي العراقي، حيث يمكن لصورة واحدة أن تشغل الرأي العام أكثر مما تفعل مئات الوثائق.