ظاهرة انتحار العسكريين تتوسع في العراق وسط صمت رسمي وتحديات اجتماعية متراكمة
حوادث متتالية تثير القلق
انفوبلس..
تشهد المؤسسات الأمنية في العراق خلال السنوات الأخيرة تنامياً لافتاً في حالات فقدان المنتسبين والضباط حياتهم في ظروف تُصنّف رسمياً ضمن خانة “الانتحار”، وسط تزايد التحذيرات من آثار الضغط النفسي والاجتماعي الذي يعيشه عناصر القوات المسلحة. وبينما تتعدد الأسباب والدوافع، من مشاكل أسرية إلى تحديات مهنية ومعيشية، تبرز الحاجة إلى فهم أعمق لجذور الأزمة وغياب منظومات الدعم النفسي داخل المؤسسات الأمنية، وصولاً إلى ضرورة اعتماد برامج وقائية فعّالة.
حوادث متتالية تثير القلق الأمني والمهني
شهدت مدينة الناصرية حالة جديدة أثارت الجدل بعد إعلان وفاة ضابط برتبة عقيد داخل مقر عمله في مديرية الدفاع المدني. ورغم فتح تحقيق رسمي لمعرفة خلفيات الحادث، أشارت مصادر أولية إلى احتمالات تتعلق بظروف شخصية تمرّ بها الضحية، بانتظار النتائج النهائية للجنة المختصة التي شُكّلت فور وقوع الحادث.
وفي واقعة أخرى بمحافظة ذي قار في آب 2025، فقد ملازم أول حياته داخل منزله عقب عودته مباشرة من واجب أمني مكثّف مرتبط بخطة الزيارة الأربعينية. وأعاد الحادث تسليط الضوء على حجم الإرهاق والضغط الذي يتعرض له أفراد الجيش عند تكليفهم بمهام متواصلة تتجاوز قدراتهم البدنية والنفسية.
هذه الحوادث، وغيرها، دفعت مراقبين إلى التأكيد بأن تزايد فقدان المنتسبين لحياتهم مؤشر خطير يكشف عمق الضغوط التي تواجهها الفئات الأمنية، في ظل غياب شبكات دعم نفسي فعّال أو برامج متابعة داخل المؤسسات.
انتشار الظاهرة في محافظات متعددة
لم تقتصر الظاهرة على جنوب العراق فحسب، إذ سُجلت حالات مشابهة في بغداد والمدائن وكركوك، وجميعها خضعت لتحقيقات رسمية. وتشير روايات الطب العدلي في بعض الحالات إلى جذور ترتبط بالخلافات العائلية أو الظروف الاجتماعية الصعبة التي يمر بها الضباط والمنتسبون.
وفي نينوى، أعلنت قيادة العمليات وفاة ضابط برتبة نقيب داخل وحدته العسكرية خلال شباط الماضي. ووفق المصادر الأمنية، كان الضابط يعاني من تدهور واضح في حالته النفسية خلال الأسابيع التي سبقت الحادث، ما سلط الضوء على غياب المتابعة المهنية للحالات التي تُظهر علامات اضطراب نفسي.
تحديات معيشية ونفسية تحت الضغط الأمني
خلال العام 2025 وحده، أعلنت السلطات الأمنية عن عدة حالات مشابهة لعناصر في الشرطة والدفاع المدني في الأنبار ومحافظات أخرى. ووفق مختصين، فإن الضغوط النفسية الناتجة عن طبيعة العمل الأمني، وضعف الاستقرار المعيشي، وتراكم المتطلبات الحياتية، تُعد من أبرز الأسباب التي تجعل المنتسبين أكثر عرضة للاضطرابات النفسية.
ويشير باحثون اجتماعيون إلى أن العوامل الشخصية مثل الخلافات الأسرية، الديون، الشعور بالإحباط أو العزلة، تُعد عوامل رئيسية قد تسهم في دفع الأفراد نحو خيارات مأساوية، خصوصاً في مجتمعات تُعاني من وصمة على مستوى الصحة النفسية تمنع العديد من طلب المساعدة.
أزمة مؤسساتية وضعف في منظومة الدعم النفسي
على الرغم من الارتفاع الواضح في الحالات، لا تزال المؤسسات الأمنية في العراق تعاني من نقص في برامج الدعم النفسي والاجتماعي داخل وحداتها. ويرى مختصون أن البنية الصحية المخصصة لمعالجة اضطرابات المنتسبين ما زالت غير كافية، وسط نقص في الكوادر المؤهلة، وخاصة في المحافظات البعيدة عن المراكز الحضرية.
كما يوضح خبراء أن الوصمة المجتمعية المتعلقة بزيارة الطبيب النفسي أو الاعتراف بالتعب النفسي تجعل العديد من الضباط يترددون في الإبلاغ عن مشكلاتهم، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمات التي يعيشونها.
إحصاءات تكشف اتساع الظاهرة
أقرت الحكومة العراقية الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الانتحار للفترة 2023-2030 استجابة لتنامي الظاهرة، إلا أنها لم تتضمن تفاصيل تشغيلية واضحة.
وتشير الإحصاءات الرسمية للعام الحالي إلى تسجيل أكثر من 45 حالة في ذي قار، و18 في البصرة، و9 في بابل، و4 في الأنبار، وأكثر من 30 حالة في ديالى.
أما على المستوى الوطني، فقد سجلت الجهات المختصة نحو 1100 حالة عام 2022، ارتفعت إلى 1300 في 2023، ثم تجاوزت 1500 حالة في 2024، وفق بيانات وزارة الداخلية.
القوانين العراقية والتعامل مع الظاهرة
ينص القانون العراقي على فرض عقوبات بالسجن تصل إلى سبع سنوات بحق من يثبت أنه حرّض على انتحار شخص آخر أو ساعده، فيما لا يُعاقب من يحاول الانتحار، بل تُحال حالته إلى مصحّات مختصة لضمان تلقي الدعم والعلاج.
وتؤكد منظمات حقوقية أن التشريعات يجب أن تترافق مع برامج اجتماعية ونفسية شاملة، وترى أن غياب هذه البرامج يعمّق المأزق ويترك الأفراد أمام ضغوطهم دون مساندة حقيقية.
اتهامات بالابتزاز والفساد تزيد الأزمة تعقيداً
يكشف الخبير العسكري اللواء المتقاعد صفاء الأعسم أن ارتفاع حالات فقدان كبار الضباط لحياتهم يرتبط أحياناً بقضايا ابتزاز تتعلق بملفات فساد أو ضغوط اجتماعية وشخصية حساسة، ما يجعل بعض الضباط يشعرون بالعجز أو الخوف من فقدان مكانتهم الوظيفية أو مكانتهم أمام عائلاتهم.
ويشير الأعسم إلى أن بعض الجهات تستغل الضباط وتورّطهم في ممارسات أو علاقات ثم تُعرّضهم لابتزاز ممنهج، وهو ما تعتبره الجهات المختصة مؤشراً خطيراً ينعكس على سلامة الجهاز الأمني واستقراره.
مع ازدياد الحالات وتنوع أسبابها، تتعاظم الحاجة لاتخاذ خطوات عملية تشمل تطوير برامج دعم نفسي داخل المؤسسات الأمنية، وتدريب الضباط على فهم التحديات النفسية، وتحسين ظروف العمل، إضافة إلى إطلاق حملات وطنية لرفع الوعي المجتمعي حول أهمية الصحة النفسية.
ويرى الخبراء أن حماية الضباط والمنتسبين تبدأ من الاعتراف بوجود أزمة حقيقية تتطلب تعاون الحكومة والمؤسسات الأمنية والمجتمع، وتوفير بيئات أكثر أماناً واستقراراً للعاملين في الخطوط الأمامية.