علم يُرفرف في بغداد وصمتٍ يخيّم على أربيل: العيد الوطني للعراق يكشف عمق الهوة بين الوطن و”إقليمٍ يختار الغياب”
انفوبلس/..
مع أولى ساعات الثالث من تشرين الأول، كانت بغداد تتزين كما لم تفعل منذ سنوات. الأعلام العراقية ترفرف على الجسور، الأغاني الوطنية تصدح في الساحات، والألعاب النارية تضيء سماء العاصمة من الكرخ إلى الرصافة. مشهد احتفالي يغمر الشوارع بفرحٍ مؤجل منذ عقود، كأن المدينة كلها قررت أن تستعيد رمزية الوطن الذي نسي نفسه طويلاً.
لكن على بُعد مئات الكيلومترات شمالاً، كانت أربيل تعيش يوماً عادياً تماماً. لا أعلام، لا موسيقى، لا لافتات تشير إلى المناسبة التي تُعد في الدستور عيداً رسمياً لكل العراقيين. وحده الصمت يخيّم على شوارع الإقليم، في مفارقة تكشف حجم الشرخ بين مركز الدولة وإحدى أبرز عواصمها الإدارية.
احتفالات بغداد.. فرح يلامس الذاكرة
في قلب العاصمة، أعلنت أمانة بغداد إطلاق حفل كبير مساء الجمعة، تضمن فعاليات موسيقية وألعاباً نارية من مختلف الدوائر البلدية، وتوزيع الأعلام والحلوى على المواطنين وأفراد القوات الأمنية المنتشرين في السيطرات.
الأطفال يلوّحون بالعلم، والشباب يرددون الأناشيد، والجنود يبتسمون للكاميرات في مشاهد أعادت شيئاً من دفء الانتماء. فالعيد الوطني العراقي، الذي أُقر رسمياً عام 2020 بعد سنوات من الجدل، أصبح أخيراً جزءاً من ذاكرة العراقيين وطقوسهم الجماعية.
الحكومة العراقية وجهت بتمديد الاحتفالات أسبوعاً كاملاً، مؤكداً أن “الثالث من تشرين الأول ليس مجرد تاريخ في دفتر الدولة، بل هو يوم ميلادها الحديث، ورمز لسيادتها وكرامة شعبها”.
في المقابل.. أربيل خارج المشهد
لكن بينما كانت بغداد تشتعل بالألوان، بدت أربيل وكأنها في عالم آخر. لا احتفالات رسمية ولا بيان حكومي ولا مشاركة رمزية حتى من باب المجاملة الوطنية.
السياسي المستقل فائق يزيدي قال إنّ “حكومة الإقليم، وتحديداً الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يقود السلطة في أربيل، تجاهلت المناسبة تماماً، رغم أن الاحتفال بها أصبح التزاماً قانونياً منذ خمس سنوات”.
يزيدي يرى أن هذا التجاهل ليس مجرد صدفة، بل “موقف سياسي مقصود يعكس رؤية الحزب الحاكم الذي لا يريد أن يتعامل مع اليوم الوطني كرمز جامع، بل كقضية تخصّ المركز وحده”. ويضيف أن “السلطة في أربيل تمرّ على الثالث من تشرين مرور الكرام، بينما يحتفظ المواطن الكردي البسيط بانتمائه الوطني واعتزازه بعراقيته رغم محاولات العزل المستمرة”.
جذور الغياب.. نزعة الانفصال التي لا تموت
يسترجع يزيدي خلفيات هذا الموقف بالإشارة إلى ما يسميه “إرث الاستفتاء” عام 2017، حين حاول الحزب الديمقراطي فرض مشروع الانفصال عن العراق، فكانت النتيجة عزلة سياسية وخسائر اقتصادية فادحة للإقليم. ويقول: “منذ تلك اللحظة، ما زال الحزب الديمقراطي يعيش عقدة الفشل، ويحاول تعويضها بتكريس هوية كردية مغلقة تبتعد شيئاً فشيئاً عن الهوية الوطنية العراقية.”
الأخطر، بحسب يزيدي، هو وجود مشاورات داخل الحزب لاقتراح قانون جديد يجعل من يوم ميلاد الزعيم الكردي الراحل مصطفى البارزاني عيداً وطنياً للعراق، وهي فكرة يعتبرها “خطوة رمزية خطيرة تهدف إلى اختزال وطن كامل في شخصية واحدة، وتحويل المناسبة الوطنية من مفهوم جامع إلى احتفال عائلي أو حزبي ضيق”.
العراق أوسع من الأسماء
يزيدي شدد على أن “العراق، بتاريخ حضارته الممتد لآلاف السنين، لا يمكن اختزاله في شخص مهما كان تاريخه”، مضيفاً أن “العيد الوطني ليس هدية من حكومة ولا مناسبة موسمية، بل هو لحظة وعي جماعي تُعبّر عن وحدة الأرض والشعب”.
حديث يزيدي يعكس إحساساً بالخذلان، فبينما يحاول العراقيون في الجنوب والوسط ترميم شعورهم بالوطن، يصرّ بعض الساسة في الإقليم على إبقاء الجدران مرتفعة بين بغداد وأربيل، وكأنهم يخشون أن يذوبوا في فكرة الانتماء الأوسع.
الفرح في بغداد.. واللامبالاة في أربيل
يقول أحد المواطنين من أربيل، رفض ذكر اسمه: “نحن نشعر أننا جزء من العراق مهما حاولوا عزلنا. لم يطلب أحد منا أن نتوقف عن الاحتفال، لكن تجاهل الحكومة جعل اليوم يبدو وكأنه مناسبة تخصّ الآخرين”.
بين التاريخ والسياسة
التاريخ يقول إن الثالث من تشرين الأول عام 1932 هو اليوم الذي انضم فيه العراق إلى عصبة الأمم، ليصبح أول دولة عربية تحصل على اعتراف دولي بسيادتها بعد الاستقلال الشكلي عن بريطانيا.
ورغم الجدل التاريخي حول مدى “الاستقلال الفعلي” آنذاك، فإن الرمزية الوطنية لهذا التاريخ لا جدال فيها، إذ يمثل لحظة دخول العراق المجتمع الدولي كدولة ذات كيان سياسي مستقل.
ولذلك أقرّ مجلس الوزراء العراقي عام 2008 هذا اليوم عيداً وطنياً، لكنه بقي حبيس الأدراج حتى عام 2020 حين أقرّ البرلمان القانون الخاص به بشكل نهائي. ومنذ ذلك العام، بات الثالث من تشرين رمزاً للاحتفاء بالدولة العراقية بكل مكوناتها، وهو ما يجعل تجاهله من قبل أي جهة سياسية نوعاً من الانسحاب الرمزي من الذاكرة الوطنية.
رمزية الغياب.. ورسائل الحضور
اللافت أن غياب أربيل لم يمرّ بصمت كامل، بل فتح الباب أمام موجة انتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تساءل ناشطون: “هل بات رفع علم العراق في الإقليم فعلاً سياسياً لا وطنياً؟”.
وفي المقابل، رأى مراقبون أن موقف الإقليم لا يعكس مزاج المواطنين الكرد بقدر ما يعكس حسابات سياسية ضيقة للحزب الديمقراطي، الذي يسعى منذ سنوات للحفاظ على “خصوصيته” كإقليم شبه مستقل، حتى لو اقتضى الأمر تجاهل الرموز الوطنية الجامعة.
