كيف روى نظام صدام حسين انتفاضة الغضب في بغداد: وثائق سرية تكشف كواليس اليوم التالي لاستشهاد السيد محمد الصدر

انفوبلس/..

لم يكن صباح العشرين من شباط 1999 يوماً عادياً في بغداد، المدينة التي استفاقت لتوّها على خبر استشهاد السيد محمد الصدر، كانت تغلي تحت السطح، فيما كانت السلطة تحاول، على عجل، تثبيت روايتها الرسمية سريعاً، فالوثائق السرية العاجلة الصادرة عن وزارة الداخلية ومديرية داخلية بغداد، والمرفوعة مباشرةً إلى رئاسة الجمهورية، تكشف بوضوح ليس فقط ما جرى ميدانياً، بل كيف أراد نظام صدام حسين أن يُعرِّفَ الحدث، وأن يضعه في إطارٍ أمني محكم، خالٍ من أي دلالة سياسية أو احتجاجية.

لغة الوثيقة

منذ السطر الأول، تفرض الوثيقة نبرتها "سري للغاية وعاجل"، ثم تبدأ السردية بالتركيز على مفردات محددة "حدث غير اعتيادي، مجرمون، منحرفون، خارجون عن القانون" لا ذكر لمتظاهرين، ولا لاحتجاج، ولا لسياق اغتيال هزّ الشارع الشيعي والعراقي عموماً. اللغة هنا ليست توصيفاً، بل إدانة مُسبقة، تهدف إلى نزع الشرعية عن أي حركة جماهيرية وقطع الطريق أمام تفسير سياسي أو ديني لما جرى.

جامع الحسن… الشرارة الأولى

بحسب الوثيقة، بدأت الأحداث قرب جامع الحسن في مدينة صدام (مدينة الصدر حالياً) عند الساعة 11:30 من يوم 20 شباط. تجمُّع محدود قُدِّر في بدايته بشخص واحد من عشيرة معينة، ثم خلال دقائق تضاعف العدد إلى نحو 15 شخصاً، قبل أن يتزايد تدريجياً.

لكن السرد سرعان ما ينتقل إلى تصعيد درامي إطلاق نار، رمانات يدوية، هتافات "الجهاد الجهاد"؛ لتبرير الرد الأمني الكثيف، وإظهار أن ما حدث لم يكن غضباً شعبياً بل "تمرداً مسلحاً".

تذكر الوثيقة أن دوريات شرطة النجدة وقوات الأمن تصدّت للتجمع، لتتحول المنطقة إلى مسرح اشتباك مفتوح. الرد لم يكن احتواءً أو تفريقاً، بل "كثافة نارية" شارك فيها ضباط ومنتسبو قاطع نجدة "مدينة صدام" وسرية طوارئ النجدة. ما أدى الى وقوع "17 قتيلاً، 43 جريحاً من المدنيين، إلى جانب إصابات في صفوف الشرطة والأمن، واحتراق عجلات النجدة نتيجة انفجار رمانات يدوية"، وفق الوثيقة.

اتساع دائرة الاشتباك

الوثيقة تشير إلى محاولة اقتحام مركز دفاع مدني صدام الأول، ورشقه بالحجارة، ثم العثور على آثار انفجار رمانتين داخل مخازن جميلة للمواد الغذائية التابعة لوزارة التجارة.

الشعلة… القصة تتكرر بصيغة أكبر

بعد ساعة واحدة فقط، تنتقل الأحداث إلى منطقة الشعلة، قرب جامع المهدي المنتظر. هذه المرة، الرقم مختلف: نحو 500 شخص بعد صلاة الظهر، وبهتاف "لا إله إلا الله محمد رسول الله". لا ذكر لسلاح في البداية، ولا لإطلاق نار، لكن تدخل دورية النجدة “بتكليف من الشعبة الحزبية” – وهي عبارة كاشفة بذاتها – ينتهي بسيطرة المتجمعين على بندقيتين وتحطيم عجلة الشرطة.

ووفق الوثيقة: "اعتقال 15 شخصاً، تسليمهم إلى أمن الشعلة، والعثور لاحقاً على إحدى البندقيتين". مرة أخرى، تُختزل الحادثة في إطار أمني بحت، دون أي إشارة إلى السبب الجوهري الذي دفع مئات الأشخاص إلى التجمع فوراً بعد صلاة الظهر.

ما بين السطور الخوف من الامتداد

ما لا تقوله الوثيقة بوضوح، لكنه حاضر في كل سطر، هو خوف النظام من الامتداد الأفقي للاحتجاج. الانتقال السريع من "مدينة صدام" إلى الشعلة، والتأكيد على دور الحزب والأمن، ورفع التقرير مباشرةً إلى رئاسة الجمهورية، كلها مؤشرات على أن السلطة رأت في ما حدث نذيراً بانتفاضة محتملة في قلب بغداد.

هذه الوثائق لا تخبرنا فقط بما جرى في 20 شباط 1999، بل تكشف كيف كان نظام صدام حسين يرى الشارع، وكيف كان يكتب تاريخه الخاص لحظات الانفجار الشعبي.