لا كهرباء ولا ماء صالح للشرب: عواصف تكشف المستور.. كيف فضحت أمطار الأنبار زيف الإعمار وعرّت سنوات من الفساد؟
انفوبلس/..
رغم مرور سنوات طويلة على تحرير المناطق الغربية من قبضة تنظيم داعش بدماء القوات الأمنية والحشد الشعبي، فإن مشهد الإعمار ما زال غارقًا في الفوضى والوعود المتعثرة، لتبقى مدن الأنبار والموصل وصلاح الدين رهينة مشاريع ناقصة أو وهمية، وواقع خدمي يزداد سوءاً بدل أن يتحسن. ورغم حجم الدمار الهائل الذي خلّفته المعارك، ورغم الأموال الضخمة التي خُصصت تحت عنوان “إعادة الإعمار”، لا يزال المواطن هناك يبحث عن ماء صالح للشرب، وكهرباء مستقرة، وطرق يمكن السير عليها دون أن تتحول إلى بحيرات في أول هطول مطري.
لكن ما يثير غضب السكان ليس الفساد فقط، بل غياب العدالة الإعلامية، إذ بات الإعلام المسيّس يسلّط الضوء على كل خطأ في المحافظات الجنوبية مهما كان صغيرًا، فيما يغض الطرف عن الفساد المتفاقم في المناطق الغربية، رغم أن حجم الإخفاقات فيها يفوق ما يحدث في الجنوب بأضعاف. هذا التباين في التغطية خلق شعورًا بالغبن لدى السكان، الذين يرون أن إعلام القوى السياسية السُنية يفرض تعتيمًا متعمدًا لحماية نفوذها ومنع انكشاف ملفات الهدر والاختلاس.
مصادر محلية مطلعة أكدت أن الحكومات المحلية في المناطق الغربية والأحزاب المتنفذة هناك تتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية تعثر مشاريع الإعمار، مشيرة إلى أن مليارات الدولارات التي خصصت على مدى سنوات لإعادة إعمار البنى التحتية والخدمات الأساسية، تم تحويلها لأغراض حزبية وشخصية، فيما بقي المواطن بلا خدمات تليق بحجم الموازنات التي صُرفت.
وتشمل هذه المشاريع الطرق الرئيسية والفرعية، شبكات الماء والصرف الصحي، المدارس والمستشفيات، بالإضافة إلى مشاريع السكن وإعادة النازحين، التي بقيت في أغلبها مجرد بيانات صحفية أو صور “قص الشريط”، بلا أثر فعلي على الأرض.
اختلالات كبيرة
ويوضح الواقع الميداني حجم الاختلال، إذ توجد أحياء كاملة بلا كهرباء منتظمة، ومناطق واسعة بلا ماء صالح للشرب، فيما يستهلك المواطنون مبالغ كبيرة لشراء المياه من الصهاريج. وعلى الرغم من أن هذه المعاناة ليست جديدة، فإن غياب التغطية الإعلامية جعل الأصوات المحلية تعتمد على منصات التواصل الاجتماعي كملاذ أخير لإيصال شكواها.
ويتداول أبناء الأنبار والموصل يوميًا مقاطع وصورًا تظهر الطرق المكسرة، المستشفيات غير المكتملة، المدارس المتوقفة، والبيوت التي ما زالت مهدمة رغم الوعود المتكررة.
ويرى مراقبون أن هذه السياسة الإعلامية المنحازة ليست عفوية، بل تخدم مصالح سياسية واضحة. فالإعلام المرتبط بجهات معينة يستخدم كأداة ضغط على محافظات دون غيرها، عبر تضخيم أخطاء الجنوب وتجاهل فساد الغرب.
هذا التوظيف الإعلامي يساهم في تزييف الوعي العام، ويمنع المواطنين من محاسبة الفاسدين الحقيقيين، خاصة حين يقدم بعض السياسيين مشاريع تجميل الأرصفة أو طلاء الجزرات الوسطية على أنها “إنجازات كبرى”، بينما البنى التحتية الأساسية تترنح تحت وطأة الإهمال.
مشاريع تعلن إعلامياً فقط
الخبير الاقتصادي ضياء الشريفي يؤكّد أن معظم المشاريع في المناطق الغربية “تُعلن إعلاميًا فقط”، وأن الكثير منها “وهمية أو مؤجلة بلا أي خطة حقيقية”. ويضيف أن ضعف الرقابة الداخلية وغياب آليات المحاسبة الفعلية فتحا الباب واسعًا أمام استمرار الفساد، حيث يتم التلاعب بالمبالغ المخصصة للمشاريع دون أن يُحاسب أحد.
ويشدد الشريفي على ضرورة تدخل الحكومة المركزية بشكل مباشر، عبر تفعيل الرقابة على المشاريع المحلية وتشكيل لجان مستقلة تضم منظمات مجتمع مدني وفرق تدقيقية، مع إصدار تقارير دورية تُنشر أمام الرأي العام حول مراحل العمل والمبالغ المصروفة.
وتشير الإحصائيات المتداولة إلى أن نسبة الفساد المالي والإداري في دوائر الدولة بالمناطق الغربية، خصوصًا في مشاريع إعادة الإعمار، وصلت إلى نحو 80%، وهي نسبة صادمة تعكس حجم السقوط الإداري والمؤسساتي هناك. وهذا يعني أن أربعة من كل خمسة دولارات مخصصة للإعمار تُهدر أو تُسرق أو تُحوّل، دون أن يلمس المواطن أي تحسن يذكر.
مصادر سياسية محلية كشفت أن ملف إعمار المناطق المحررة وقع تحت سيطرة مجموعة ضيقة من المتنفذين في الحكومات المحلية والأحزاب السنية، الذين حولوا هذا الملف إلى “منجم سياسي ومالي”، بعيدًا عن الهدف الحقيقي لإعادة تأهيل المدن. وتشير المصادر إلى أن السمة الأبرز للمناطق المحررة خلال السنوات الأخيرة أصبحت “ملفات الفساد”، إذ تتوالى فضائح المشاريع الوهمية ومقاولات المحسوبية تباعًا، فيما تتراجع الخدمات يوماً بعد يوم.
-
لا كهرباء ولا ماء صالح للشرب: عواصف تكشف المستور.. كيف فضحت أمطار الأنبار زيف الإعمار وعرّت سنوات من الفساد؟
صراعات "السنة"
وتعزو هذه المصادر تفاقم المشكلة إلى الصراع السياسي داخل البيت السني، حيث يجري تقاسم عقود الإعمار بين مجموعة من الشخصيات النافذة، بينما يتم إقصاء الشركات الكفوءة أو المستقلة.
كما أن استمرار الحكومة المركزية بفتح ملفات فساد المحافظات المحررة خلق عوائق سياسية كبيرة، لأن هذه الملفات تمس مصالح زعماء محليين يتمتعون بنفوذ واسع وغطاء سياسي قوي.
وتوضح تقارير رقابية أن فجوة هائلة تفصل بين الأموال المصروفة ونتائج الإعمار المتحققة فعليًا، وأن الهدر المالي قد يصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مليار دولار. وتضيف أن هناك تضاربًا كبيرًا في البيانات الرسمية، وعدم وجود قاعدة معلومات دقيقة لتتبع حجم الأضرار والمشاريع، ما أبقى الباب مفتوحًا أمام التلاعب وإنشاء مشاريع وهمية أو متلكئة خلال السنوات الماضية.
لكن اللحظة التي كشفت المستور بدأت مع الأمطار الغزيرة التي هطلت على مدن الأنبار يوم الثلاثاء، والتي تحولت إلى اختبار حقيقي للبنى التحتية. ففي غضون ساعات فقط، غرقت الشوارع، وفاضت المياه على المنازل، وتوقفت حركة المرور، ما أثار موجة غضب عارمة بين السكان الذين رأوا بأعينهم نتيجة سنوات من سوء التنفيذ ورداءة التخطيط.
الشيخ رائد عبد الدليمي، أحد وجهاء الرمادي، أكد أن الأمطار “فضحت ما يجري فعلاً”، وأن مشاريع الإكساء والتبليط التي روجت لها حكومة الحلبوسي“كانت مجرد ديكور سياسي”، إذ أُسندت إلى مقاولين مرتبطين بأحزاب نافذة، رغم عدم أهليتهم الفنية. ويضيف أن العديد من الأحياء السكنية غمرتها المياه من كل جانب، وأن المنازل امتلأت بمياه الأمطار، فيما بقيت المناطق غير المخدومة بشبكات المجاري تواجه كارثة حقيقية كل موسم.
عار تنموي!
ويؤكد الأهالي في الفلوجة والرمادي والقائم وحديثة أن ما يحدث “عارٌ تنموي”، إذ يتم صرف الملايين على توسعة الشوارع وصبغ الأرصفة ووضع المصابيح الحديثة، بينما تُهمل الأحياء الداخلية التي تُعد الأساس في حياة المواطنين. ويقول السكان إن الأمطار كشفت زيف ما سُمي بـ“ثورة الإعمار”، التي تحولت اليوم إلى وعود جوفاء بعد أن ظهرت هشاشة البنى التحتية أمام أوّل اختبار طبيعي.