مستشفيات أقل وسكان أكثر: تحديات الصحة العامة في عراق ما بعد التعداد السكاني
انفوبلس/ تقارير
يقف العراق اليوم أمام معادلة شديدة التعقيد تجمع بين تسارع النمو السكاني وتحديات البنية التحتية الصحية، في وقت تكشف فيه نتائج التعداد السكاني عن واقع ديموغرافي غير مسبوق من حيث الحجم والتركيب العمري. وبينما ترى الحكومة في هذه المعطيات فرصة تاريخية لدفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يحذر خبراء من أن غياب التخطيط الاستراتيجي المتكامل قد يحول هذه “الهبة الديموغرافية” إلى عبء ثقيل يفاقم أزمات الخدمات، وعلى رأسها القطاع الصحي، ويضغط بقوة على الموارد المحدودة للدولة.
واقع صحي تحت ضغط التعداد والنمو المتسارع
يواجه القطاع الصحي في العراق تحديات متراكمة بفعل النمو السكاني السريع، الذي أدى إلى زيادة غير مسبوقة في الطلب على المستشفيات والمراكز الصحية والخدمات الطبية بمختلف مستوياتها.
وتكشف نتائج التعداد السكاني الأخيرة أن عدد سكان العراق بلغ نحو 46 مليون نسمة، مع تسجيل زيادة سنوية تقترب من مليون نسمة، ما يضع ضغوطاً إضافية على منظومة صحية تعاني أصلاً من نقص في البنية التحتية والتجهيزات والكوادر.
ويبرز في هذا السياق التركيب العمري للسكان، إذ تشير البيانات إلى أن نحو 60% من العراقيين ينتمون إلى الفئة العمرية بين 15 و32 عاماً، وهي الفئة التي يُطلق عليها مصطلح “الهبة الديموغرافية”.
ويجمع المختصون على أن هذه الكتلة الشبابية يمكن أن تشكل رافعة حقيقية للتنمية إذا ما أُحسن استثمارها من خلال سياسات صحية وتعليمية واقتصادية متكاملة، لكنها في المقابل قد تتحول إلى عامل ضغط كبير في حال استمرار ضعف التخطيط وغياب الرؤى بعيدة المدى.
وتتجلى آثار هذا الضغط في ارتفاع معدلات الاكتظاظ داخل المستشفيات، وتفاوت مستوى الخدمات الصحية بين المحافظات، ولا سيما بين المراكز الحضرية والمناطق الطرفية والشعبية، فضلاً عن محدودية عدد الأسرة قياساً بعدد السكان، وتأخر إنجاز مشاريع صحية جديدة قادرة على استيعاب الطلب المتزايد.
جهود حكومية ورؤية بعيدة المدى لاحتواء التحديات
في مواجهة هذه التحديات، تؤكد الحكومة العراقية أنها ماضية في تبنّي استراتيجيات طويلة الأمد تهدف إلى تحقيق التوازن بين النمو السكاني واحتياجات القطاع الصحي.
ويقول مستشار رئيس الوزراء للشؤون المالية، مظهر محمد صالح في حديث له تابعته شبكة انفوبلس، إن الحكومة تعمل ضمن إطار استراتيجية اقتصادية متكاملة تندرج في صلب البرنامج الحكومي ورؤية العراق 2050.
ويشير صالح إلى أن هذه الرؤية تركز على زيادة الاستثمار في البنية التحتية الصحية من خلال بناء مستشفيات ومراكز طبية جديدة، خصوصاً في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، بما يسهم في تقليل الفجوة الخدمية وتحسين مستوى الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين.
كما تتضمن الخطط الحكومية إدخال التحول الرقمي في القطاع الصحي عبر ربط السجلات الطبية بالمرافق الصحية المختلفة، الأمر الذي يتيح تحديد الاحتياجات الفعلية بدقة، ويرفع من كفاءة الإنفاق، ويحد من الهدر.
وتشمل هذه الاستراتيجية أيضاً العمل على تحقيق توزيع أكثر عدالة للموارد البشرية الصحية، للحد من التفاوت الجغرافي في توفر الأطباء والملاكات التمريضية، وضمان وصول الخدمات الطبية إلى جميع المواطنين دون تمييز. ويأتي برنامج التأمين الصحي الوطني في مقدمة هذه الأدوات، إلى جانب برامج دعم الأسر محدودة الدخل، بهدف تعزيز العدالة الصحية وتخفيف الأعباء المالية عن الفئات الهشة.
ويؤكد صالح أن جوهر هذه السياسات يتمثل في خلق توازن مستدام بين الزيادة السكانية والقدرة الاستيعابية للقطاع الصحي، مع التركيز على الاستثمار في صحة وتأهيل الشباب بوصفهم المحرك الأساسي لأي تنمية اقتصادية واجتماعية طويلة الأمد.
السياسة السكانية وتحسين المؤشرات الصحية
بموازاة الجهود الحكومية في القطاع الصحي، تعمل وزارة التخطيط العراقية على وضع إطار شامل لمعالجة آثار النمو السكاني.
ويوضح المتحدث باسم الوزارة، عبد الزهرة الهنداوي، أن الوزارة أطلقت في عام 2023 “الوثيقة الوطنية للسياسة السكانية”، وهي وثيقة استراتيجية تغطي 11 محوراً رئيسياً تتعلق بالصحة والتعليم والسكن، ودعم الفئات الهشة، وتمكين الشباب والمرأة، فضلاً عن مواجهة التغيرات المناخية.
وفي ما يخص محور الصحة، يبين الهنداوي أن الوثيقة تهدف إلى تحسين مستوى الرعاية الصحية الأولية، وخفض معدلات وفيات الأطفال دون سن الخامسة، وزيادة متوسط العمر المتوقع.
ويشير إلى أن المؤشرات الصحية شهدت تحسناً ملحوظاً خلال الفترة الأخيرة، إذ ارتفع متوسط العمر المتوقع للرجال إلى 72 سنة بعد أن كان 69، وللنساء إلى 74 سنة بعد أن كان 71.
كما تتضمن السياسة السكانية زيادة عدد الأسرة في المستشفيات، وتحسين نوعية الخدمات الصحية من خلال إنشاء مشاريع ومرافق طبية جديدة قادرة على استيعاب الطلب المتزايد الناتج عن النمو السكاني.
ويرى مسؤولون في الوزارة أن هذه الخطوات تمثل جزءاً أساسياً من مسار طويل يتطلب تنسيقاً عالياً بين مختلف مؤسسات الدولة لضمان تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.
تحدٍ مزدوج وضغط متصاعد على الموارد والخدمات
رغم هذه الخطط، يحذر خبراء اقتصاديون وباحثون من أن النمو السكاني السريع يمثل “سلاحاً ذا حدين”.
ويؤكد الخبير الاقتصادي مصطفى الفرج أن العراق يشهد تضاعفاً تقريبياً في عدد سكانه كل 35 سنة، ما يفرض تحديات كبيرة على الاقتصاد والخدمات العامة إذا لم تُقابل هذه الزيادة بقفزة موازية في البنية التحتية والتخطيط الحضري.
ويشير الفرج إلى أن الاعتماد شبه الكلي على النفط يزيد من هشاشة الاقتصاد أمام هذا النمو، داعياً إلى استثمار الطاقة البشرية المتزايدة في قطاعات إنتاجية متنوعة مثل السياحة والصناعة والزراعة، بما يخلق فرص عمل حقيقية ويخفف من معدلات البطالة المرتفعة بين الشباب.
من جانبها، تلفت الباحثة حوراء الياسري إلى أن الزيادة السكانية، التي تُقدّر بنحو مليون شخص سنوياً، تضيف ضغطاً كبيراً على الموارد الطبيعية، ولا سيما المياه والطاقة، في ظل توقعات بانخفاض حصة الفرد من المياه إلى مستويات حرجة بسبب التغير المناخي.
وتؤكد الياسري، أن هذا الواقع يؤدي إلى تقليص نصيب الفرد من الخدمات الصحية والتعليمية، ما يعرقل بناء رأس مال بشري مؤهل وقادر على قيادة التحول الاقتصادي.
كما تحذر الياسري من أن اختلال التوازن بين الطلب المتزايد والموارد المحدودة يسهم في ارتفاع معدلات التضخم، خاصة مع تباطؤ نمو القطاع غير النفطي.
ويعزز هذا التشخيص ما يطرحه مصطفى الفرج، الذي يرى أن غياب التطور المتوازي في البنية التحتية منذ مطلع الألفية يفسر جانباً كبيراً من اختناقات الخدمات الحالية، حيث بقيت الشوارع والشبكات على حالها تقريباً رغم الزيادة المطردة في عدد السكان، مع تركز نحو ثلثي السكان في المناطق الحضرية.
وفي السياق نفسه، تؤكد عضو لجنة الخدمات والإعمار النيابية، مهدية اللامي، أن العديد من المناطق، خصوصاً الشعبية منها، تعاني نقصاً حاداً في الخدمات الأساسية، لدرجة يمكن وصف بعضها بأنها “مناطق منكوبة خدمياً”، نتيجة النمو السكاني السريع وعدم مواكبة البنية التحتية لهذا التوسع.
وترى اللامي أن مواجهة هذا الواقع تتطلب إعداد خطط متكاملة تراعي نسب السكان ومستويات الحرمان الخدمي، مع إعطاء الأولوية المطلقة لمشاريع البنى التحتية والمياه والخدمات الصحية ضمن البرامج الحكومية.
وتشير إلى أن الوثيقة الوطنية للسياسة السكانية، التي أُدرجت محاورها ضمن الخطة الخمسية 2024–2028، تمثل خارطة طريق مهمة لتحقيق التوازن بين الزيادة السكانية ومتطلبات الحياة الأساسية.
وبالتوازي مع السياسات الحكومية، يطرح خبراء الاقتصاد مسارات عملية لاستثمار “الانفجار السكاني” لصالح الاقتصاد العراقي.
ويؤكد الفرج أن الحل يبدأ بتعليم موجه لسوق العمل عبر توسيع التعليم المهني والتقني وربطه بسلاسل قيمة محلية تشمل الزراعة الحديثة والصناعات الخفيفة والخدمات الرقمية. كما يشدد على ضرورة تشغيل الشباب والنساء، وربط حوافز التوظيف بالإنتاجية، وإزالة العوائق أمام مشاركة المرأة اقتصادياً.
أما حوراء الياسري، فترى أن تنويع الاقتصاد، وزيادة الإنفاق على التعليم والصحة، وتطوير البنية التحتية للمياه والطاقة، إلى جانب تعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد، تشكل ركائز أساسية لتحويل التحدي السكاني إلى فرصة تنموية حقيقية.
وبين هذه الرؤى والتحديات، يبقى مستقبل القطاع الصحي في العراق مرهوناً بقدرة الدولة على تحويل الخطط إلى واقع ملموس، واستثمار الزخم الديموغرافي في بناء منظومة صحية مستدامة قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وصناعة فرص المستقبل.

