من أزقة بغداد إلى غرف الولادة: قابلات العراق بين الإقصاء الرسمي والثقة الشعبية.. مهنة تخوض معركة الاعتراف في ظل نظام صحي متأزم
انفوبلس/..
في العراق، حيث تتقلص ثقة المواطنين بالمؤسسات الصحية، وتزداد كلفة الرعاية الطبية، تظهر شخصية القابلة المنزلية كمصدر أمان بديل، لا سيما في الأحياء الشعبية والمناطق الريفية. هناك، ما زال الناس يطرقون أبواب "الجدّات" عند كل ولادة، ويثقون بلمستهن وخبرتهن أكثر مما يثقون بقفازات الطبيب. لكن هذا الدور المتجذر يواجه اليوم تهديدات من نوع مختلف: قوانين متضاربة، تضييق حكومي، نظرة طبية متشككة، وأحياناً رصاص العشائر.
ورغم التطور المفترض في المنظومة الصحية، فإن آلاف العراقيات ما زلْنَ يلدْنَ على أسرّة منازل متواضعة، في غرف صغيرة بالكاد تتسع لأصوات الزغاريد. في تلك اللحظات، تصبح القابلة كلّ شيء: طبيبة، ومرشدة، ومُسعفة، وامرأة تُمسك بخيط الحياة.
من الأزقة إلى غرفة العمليات
في أحد أزقة حي الأورفلي الشعبي في بغداد، ترعرعت أم زهراء (47 عاماً) بين صرخات الولادة ورائحة الشاي المغلي. لم يكن في بيتهم غرفة للضيوف، بل صالة دائمة للحوامل. والدتها، قابلة تقليدية، لم تدرس الطب، لكنها امتلكت ما يفوقه: إرثاً من الثقة والخبرة. كانت البنات يتعلمن المهنة بالملاحظة، ثم بالممارسة المباشرة.
تقول أم زهراء: "كنت مراهقة، لكن أمي كانت ترسلني وحدي لاستقبال حالات ولادة، لأنه ماكو أحد غيري بالبيت. ما كنت خايفة، كنت حاسّة إني أقوى من الخوف".
لاحقاً، التحقت بإعدادية التمريض، وتدربت في مستشفى العلوية، فجمعت بين الدراسة والموروث. لكنها بقيت تُصنّف كـ"قابلة أهلية"، لأنها لم تحصل على شهادة أكاديمية جامعية، بل إذن مزاولة من وزارة الصحة قبل عام 2012، وفقاً لما ينص عليه قانون مزاولة مهن التمريض والقبالة في العراق.
قابلات لا يحملن لقباً
في العراق، ينظّم قانون رقم 96 لسنة 2012 عمل القابلات، ويقسمهن إلى فئتين: أكاديميات يحملن شهادات من كليات ومعاهد طبية، وأهليات حصلن على إذن من وزارة الصحة دون شهادة جامعية. الفرق بينهن لا يتوقف على اللقب، بل يشمل الصلاحيات، مدة الرخصة، ونطاق العمل.
تُجبر القابلات الأهليات على تجديد تراخيصهن سنوياً، والخضوع لدورات قصيرة لا تتجاوز الشهر، وغالباً ما يُمنعن من استخدام أدوات طبية أساسية في عياداتهن، رغم السماح لهن باستخدامها داخل المستشفيات. وهو ما ترى فيه أم زهراء "تناقضاً يهدد حياة النساء، لكن يجب التقيد به لتجنب المساءلة".
ورغم أن القابلات الأكاديميات يحظين باعتراف أوسع، فإن أغلبهن يعملن في مستشفيات حكومية مزدحمة أو يُجبرن على الهجرة بسبب ضعف الرواتب وسوء ظروف العمل، تاركات فراغاً تملؤه القابلات الأهليات.
وصمة اجتماعية إلى احترام متأخر
يؤكد فراس الموسوي، نقيب التمريض العراقي، أن النظرة لمهنة التمريض والقبالة كانت سلبية لسنوات طويلة، لدرجة أن بعض العائلات كانت ترفض تزويج أبنائها من الممرضات. ويضيف أن هذه النظرة بدأت بالتغير بعد عام 2003، مع تزايد الإقبال على دراسة التمريض، وارتفاع عدد خريجات الكليات، بل وظهور برامج دراسات عليا في بعض الجامعات.
لكن الواقع لا يزال معقداً. فمن جهة، هناك نقص حاد في عدد القابلات المؤهلات، بحسب تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان، ومن جهة أخرى، تُحاصر القابلات الممارسات بقيود قانونية واجتماعية تمنعهن من ممارسة عملهن بكفاءة.
"دخلت عليها جدّة": من وصفة ثقة إلى تهمة
في دفاتر بعض المستشفيات العراقية، تُسجّل عبارة "دخلت عليها جدة" عند استقبال امرأة كانت تحت رعاية قابلة أهلية. هذه العبارة، التي كانت ذات يوم شهادة على "الخبرة الشعبية"، تحولت إلى قرينة ضد القابلة، خاصة إذا حصلت مضاعفات.
تقول أم زهراء: "إذا توفت أم أو طفل، أول شي يسألون: من ولّدها؟ وإذا يعرفون قابلة أهلية، يرمون اللوم كله عليها".
وتشير إلى أن بعض الطبيبات يعتبرن القابلات الأهليات "منافسات"، ويستخدمن نفوذهن لإبعادهن، بدلاً من دمج خبراتهن في النظام الصحي.
تهديدات عشائرية وسلاح داخل غرفة الولادة
وراء كل حالة ولادة، توجد أيضاً مجازفة قانونية وعشائرية. فحين تتعقّد الأمور، قد لا يكتفي الأهالي بإلقاء اللوم، بل يلوّحون بالسلاح. تؤكد أم محمد، قابلة من بغداد، أنها تلقت تهديدات بالقتل بعد وفاة جنين، رغم أن العائلة كانت تعلم بوفاته قبل الولادة.
في مثل هذه الحالات، تلجأ القابلات إلى توثيق موافقات خطيّة من العائلة، أو تسجيل الحالات بالصوت والصورة إن أمكن، لتجنب التبعات القانونية أو العشائرية.
القابلة وقت الأزمات: حين تغيب الدولة
حين سقطت بغداد في دوامة الحرب الطائفية عام 2006، بقيت أم محمد في حيها رغم القصف، وتحوّل منزلها إلى ما يشبه المستشفى. في يوم واحد، أجرت 23 ولادة. لم تكن هناك إسعافات، ولا أدوية كافية، لكنها كانت الوحيدة المتاحة.
تقول: "كنت أطلب من أهل الحامل يوقعون تعهدا قبل الولادة، لأنه ماكو مستشفى أقدر أرسلها عليه، وكل الشوارع كانت خطر".
خلال جائحة كورونا، تكررت المعاناة نفسها. أغلقت المستشفيات أبوابها، أو أصبحت بؤراً للعدوى، فاستعادت القابلات دورهن المحوري في الولادات المنزلية، رغم صعوبة التعقيم ومخاطر العدوى.
لماذا تفضّل النساء الولادة المنزلية؟
كثير من النساء لا يثقن بالمستشفيات الحكومية، خاصة بعد تجارب قاسية. تقول بشرى، وهي شابة من بغداد، إنها شهدت وفاة امرأة في غرفة الولادة، ولم تجد من يواسيها أو يشرح لها ما يجري.
في ولادتها الثانية، اختارت قابلة منزلية، ومرت التجربة بسلام، رغم بساطة الأدوات ونقص المستلزمات.
هل القابلة منافسة أم شريكة؟
لا تطالب القابلات في العراق بإلغاء الأطباء أو المستشفيات، بل بأن يُنظر إليهن كشريكات في النظام الصحي، لا كتهديد له. فالمشكلة لا تتعلق بالكفاءة وحدها، بل بعدم الاعتراف بخبرة نساء قضَيْنَ عقوداً في غرف الولادة، وكنّ - في أوقات الحرب والسلام - خط الدفاع الأول عن حياة الأمهات والمواليد.
تقول أم زهراء: "إحنا مو ضد الطبيبات، نشتغل وياهن يومياً، لكن نريد اعتراف حقيقي، مو بس رقابة وعقوبات". وتشير إلى أن تطوير مهنة القابلة لا يكون بإقصائها، بل بدمجها في نظام صحي حديث، وتقديم دعم تدريبي مستمر، وتشريعات تحميها من المخاطر القانونية والاجتماعية.
في الهامش… قلب النظام النابض
رغم التشريعات، ورغم تغير الزمن، لا تزال القابلة المنزلية تسدّ فجوة كبيرة في النظام الصحي العراقي، خاصة في الأرياف ومناطق النزاع والمجتمعات الفقيرة. هذه الفجوة لا تسدها الألقاب ولا الشهادات فقط، بل التجربة والقدرة على التعامل مع بشر حقيقيين في لحظات الضعف القصوى.
ففي وقت قد تُغلق فيه المستشفيات أبوابها، أو ينهار النظام الصحي بسبب الأزمات، تظل القابلة – بـ حقيبتها البسيطة ويديها التي اعتادت الحياة – صلة الوصل بين امرأة تتألم وطفل يرى النور.
ورغم أن الحكومة تحتفظ بقاعدة بيانات منظمة للقابلات المرخصات، فإنها غير متاحة للعامة، وتُخفي جزءاً مهماً من الصورة. إذ يبقى الواقع يقول: هناك آلاف النساء العراقيات يلدنَ على يد قابلات غير مسجلات، بعضهن مؤهلات، وبعضهن لا.
