من “التكتك المحترق” إلى تجارة العطف.. كيف تحوّل الألم إلى مشروع ربحي في شوارع بغداد؟
انفوبلس/..
في أحد شوارع العاصمة بغداد، وبين صخب المارة وهدير الدراجات الصغيرة، اشتعلت النيران في “تكتك” صدئ أمام أنظار الناس. لم يكن المشهد عاديًا؛ فقد بدا السائق وهو يصرخ بحرقة أمام عدسات الهواتف، متحدثًا عن قسوة المخالفة التي أحرقت رزقه وأمله في الحياة. بعد ساعات فقط، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بموجات تعاطف جارفة، وتحوّل الرجل إلى “ضحية وطنية”، قبل أن يبادر احد الفنانين بالتبرع له بسيارة أجرة جديدة، في مشهد بدا وكأنه نهاية سعيدة لفيلم قصير عن “الخير العراقي”.
لكن بعد أيام قليلة، انقلبت القصة رأسًا على عقب. إذ لم تمضِ سوى ساعات على تداول الحادثة حتى كشفت الشرطة العراقية سلسلة من الحوادث المشابهة، كان أبطالها هذه المرة مجموعة من الأشخاص الذين قرروا إشعال النار في دراجاتهم عمدًا، طمعًا في المال والتعاطف. وهكذا، انكشفت واحدة من أغرب الظواهر الاجتماعية التي يشهدها العراق مؤخرًا: ظاهرة “الاستعطاف المصطنع”، أو ما يسميه البعض “الاحتيال العاطفي”.
من الضحية إلى المحتال.. دراما الشارع العراقي
في تفاصيل القصة التي شغلت الرأي العام، ألقت مفارز شرطة الصالحية القبض على ثلاثة أشخاص متورطين في إضرام النار بدراجة نوع (تكتك)، في محاولة مدروسة لاستدرار عطف المواطنين وجمع التبرعات. وأظهرت التحقيقات أن المجموعة كانت تخطط لتصوير الفيديو ونشره عبر صفحات التواصل لاستغلال مشاعر الناس.
وفي حادثة أخرى، أعلنت وزارة الداخلية القبض على أربعة أشخاص آخرين أقدموا على حرق سيارتهم عمدًا في منطقة ببغداد، بدعوى أنهم خسروا مصدر رزقهم. وبعد التحقيق، اعترفوا بأن الهدف كان جمع المال من المتعاطفين الذين سارعوا لمساعدتهم.
هذه الحوادث، وإن بدت بسيطة في ظاهرها، إلا أنها تسلط الضوء على تحول خطير في سلوك بعض الأفراد، الذين لم يعودوا يرون في التعاطف الإنساني قيمة أخلاقية، بل وسيلة ربح سريعة لا تقل عن التسوّل أو الاحتيال الإلكتروني.
إنها ظاهرة جديدة تُضاف إلى سلسلة من التحولات الاجتماعية التي يعيشها العراق ما بعد الأزمات، حين تحوّل الفقر واليأس إلى مواد خام تُستغل لإنتاج قصص مؤثرة على “فيسبوك” و”تيك توك”، لجذب التبرعات أو الشهرة.
هشاشة المجتمع وتجارة العواطف
تقول الحقوقية أنوار الخفاجي، إن “هذه التصرفات تمثل سلوكًا خطيرًا على البنية الاجتماعية، كونها تزرع ثقافة الكذب والاحتيال لدى الجيل الناشئ، وتشوه صورة العراق داخليًا وخارجيًا باعتباره بلدًا يُستغل فيه التعاطف لتحقيق مكاسب شخصية.”
وتضيف أن الظاهرة “تُضعف الثقة بين المواطن والدولة، وتُربك قيم التكافل الحقيقي الذي يقوم عليه المجتمع العراقي منذ قرون”، مؤكدة أن “من الناحية القانونية يمكن اعتبارها نوعًا من الاحتيال أو الابتزاز العاطفي، ويُعاقب عليها وفق قانون العقوبات العراقي عند ثبوت النية الخداعية.”
ما تطرحه الخفاجي يذهب أبعد من مجرد “حدث عابر”؛ فهذه الممارسات تكشف عن هشاشة المنظومة الاجتماعية والاقتصادية، وغياب الرادع الأخلاقي والقانوني لدى بعض الفئات التي وجدت في “المأساة المصطنعة” طريقًا للربح أو الظهور.
لقد أصبح “التكتك المحترق” نموذجًا مصغرًا لواقعٍ أكبر، حيث تتحول المظلومية إلى مسرح مفتوح، والدموع إلى وسيلة لتعبئة المحافظ الإلكترونية.
حين تُباع المأساة في بثّ مباشر
في عالم التواصل الاجتماعي، لم يعد التفريق بين الحقيقة والتمثيل أمرًا سهلًا. فالمقاطع التي تبدأ بلحظة بكاء تنتهي غالبًا بمشاهد تضامن جماهيري، دون أن يسأل أحد عن خلفيات الحدث.
من هنا، وجدت بعض الفئات الهشّة أو الطامعة في المال فرصة لتصوير الألم وبيعه في قالبٍ رقميٍّ مؤثر.
وبحسب مختصين في علم الاجتماع، فإنّ هذه السلوكيات تتغذّى على ثلاث بيئات أساسية:
-أولها الفقر المزمن الذي يجعل من أي فرصة للربح مغرية مهما كانت غير أخلاقية.
-وثانيها ضعف الوعي القانوني والإعلامي، إذ يجهل كثيرون أن التمثيل أو الادعاء الكاذب بهدف جمع المال يُعد جريمة احتيال.
-وثالثها ثقافة الشهرة السريعة التي خلقتها مواقع التواصل، حيث يمكن لأي شخص أن يصبح نجمًا ليومٍ واحد إذا نجح في إثارة العاطفة.
ولعلّ الأخطر من ذلك أن هذه القصص الوهمية بدأت تضعف مناخ الثقة العام، فكل مأساة حقيقية أصبحت تُقابَل اليوم بالشكّ والريبة.
يقول أحد المواطنين في بغداد: “بعد اللي شفناه، حتى إذا أحد احترق تكتكه صدك، الناس ما تصدّق، لأن الكل خافوا من التمثيل. راحت الثقة من بينا.”
بين القانون والضمير
من الناحية القانونية، تُعتبر هذه الأفعال جرائم احتيال يعاقب عليها القانون العراقي، خصوصًا إذا كان القصد منها خداع الناس وجمع المال بوسائل غير مشروعة.
لكن المشكلة، كما يرى خبراء القانون، تكمن في صعوبة الإثبات؛ فكيف يمكن للسلطات أن تفرّق بين حادثٍ حقيقي وآخر مفتعل في ظل غياب المراقبة وتعدد الروايات؟
ولهذا، يطالب بعض المختصين بتشديد الرقابة على حملات التبرع الفردية والعشوائية التي تنتشر في الشوارع ووسائل التواصل، وتفعيل الدور الإعلامي في التوعية بخطر الاستعطاف المصطنع الذي يسيء إلى ثقافة العمل الخيري والإنساني.
الخفاجي شددت على ضرورة إجراءات رادعة إعلاميًا وأمنيًا، معتبرة أن “التهاون مع مثل هذه التصرفات قد يحوّلها إلى موضة اجتماعية، يشارك فيها كل من يبحث عن شهرة أو دعم مادي، في وقتٍ يحتاج فيه العراق إلى تعزيز قيم الصدق والإيثار لا المتاجرة بالعاطفة.”
من ضحية إلى متهم.. وأزمة ثقة تتفاقم
لم يعد غريبًا اليوم أن ترى في شوارع بغداد أو البصرة أو النجف أشخاصًا يقفون وسط الزحام، يطلبون التبرعات بدعوى إصابة أو حادث أو مأساة عائلية. بعضهم صادق فعلًا، لكنّ آخرين ينتمون إلى عصابات تسوّل منظّمة، تجمع الأموال تحت غطاء العمل الإنساني.
وقد أعلنت السلطات الأمنية مرارًا عن تفكيك شبكات كاملة من المتسوّلين أو المحتالين الذين يستخدمون الأطفال والنساء لكسب العطف. ومع ذلك، لا تزال الظاهرة تتجدد بأشكالٍ مختلفة، وأحدثها حرق الممتلكات عمداً.
هذه الأزمة الأخلاقية، كما يصفها بعض الباحثين، تُهدّد نسيج الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، وتشوّه صورة العراق في الإعلام الخارجي كبلدٍ فقد بوصلته الأخلاقية بين الحاجة والاحتيال.
فحين يُكافأ المزيّف بالتبرعات، ويُهمل المحتاج الحقيقي، يصبح المجتمع أمام معادلة خطيرة عنوانها: “التمثيل أكثر ربحًا من الصدق.”
الحاجة إلى وعي جديد
الظاهرة، في جوهرها، لا تُختزل في فعلٍ فردي، بل تعبّر عن أزمة قيمٍ وانهيار منظومة التكافل التقليدي التي طالما ميزت العراقيين. فالمجتمع الذي كان يتسابق يومًا لمساعدة الفقراء بصدق، صار اليوم يعيش في حذرٍ من كل دمعة تُبث على الشاشة.
إن مواجهة هذه الممارسات لا تتطلّب فقط إجراءات أمنية، بل حملة وعي جماعي تُعيد الاعتبار للصدق والرحمة الحقيقية، وتكشف المتاجرين بمشاعر الناس. فالتعاطف قيمة إنسانية، لا سلعة رقمية تُباع بمشاهدات وإعجابات.
