من هويات مزوّرة لعناصر داعش إلى مليارات بأيدي موظفين صغار.. فساد الأنبار بعد التحرير يفضح تغوّل حزب الحلبوسي

انفوبلس/..

لم تعرف محافظة الأنبار الهدوء التام منذ أن تحررت من سطوة تنظيم داعش الإرهابي عام 2017. فرغم انحسار خطر التنظيم عسكرياً، إلا أن شبحه ظل حاضراً في ملفات الفساد والتزوير والصفقات المشبوهة، ليُعيد تشكيل أزمة لا تقل خطورة عن الحرب نفسها، أزمة نسجت خيوطها أيادٍ فاسدة محمية من أحزاب نافذة، مستغلة الفوضى التي رافقت سنوات سيطرة التنظيم وما تلاها من ارتباك إداري وأمني.

وزارة الداخلية تكشف المستور

وزارة الداخلية العراقية أعلنت في بيان رسمي بتاريخ 8 كانون الأول 2024 عن اكتشاف مخالفات جسيمة في تسجيل بعض الحالات في قضاء القائم بالأنبار. البيان أشار إلى أن تلك المخالفات جرى استغلالها في إصدار بطاقات وطنية خلال فترة سيطرة داعش على الدوائر الصحية والمحاكم. وبحسب الوزارة، فقد تمت إحالة 11 ضابطاً وموظفاً إلى محاكم قوى الأمن الداخلي بعد تشكيل مجالس تحقيقية بحقهم، مع التلويح بطرد كل من تثبت إدانته من الخدمة. كما تم إيقاف القيود غير الصحيحة وإبطال البطاقات التي صدرت بصورة غير قانونية.

الإجراءات بدت وكأنها خطوة إصلاحية، لكنها في الواقع فتحت صندوقاً أسود من الملفات المسكوت عنها، أبرزها استغلال الفوضى الأمنية والسياسية لتزوير مستمسكات رسمية لعناصر مطلوبين أو لأشخاص لا يمتّون بصلة للأنبار أصلاً.

أحزاب نافذة وراء التلاعب

عضو “تحالف الأنبار المتحد”، طارق الدليمي، أكد أن بعض الموظفين الفاسدين وجدوا حماية من أحزاب متنفذة تسيطر على مفاصل المحافظة. هؤلاء استغلوا حالة الانهيار التي أعقبت دخول داعش عام 2014 وما تلاها من سنوات اضطراب، ليمنحوا بطاقات وطنية ومستمسكات أخرى لمطلوبين أو أشخاص غير عراقيين.

الدليمي أشار إلى أن الأجهزة الرسمية تلقت بعد التحرير قوائم بأسماء عناصر داعش الممنوعين من الحصول على أي مستمسك رسمي. لكن الفساد تغلغل حتى في دوائر البطاقة الوطنية والجوازات والسكن، حيث تم تمرير معاملات مخالفة للقانون.

وثائق لعناصر ميتين… وتعويضات بالملايين

الحراك الشعبي في الأنبار كشف أبعاداً أكثر خطورة. الناشط حسام الفلاحي أوضح أن المئات من عناصر داعش الذين قُتلوا خلال المعارك حصلوا على “شهادات وفاة” مزورة صادرة من الدوائر الرسمية، تثبت أنهم مدنيون قُتلوا في العمليات، بهدف تمكين عوائلهم من الحصول على التعويضات. في حالات أخرى، مُنحت بطاقات وطنية لعناصر ميتين على أنهم ما زالوا أحياء، ليستلم ذووهم مبالغ مالية ضخمة.

الفلاحي لفت إلى أن هذه الوثائق تُباع مقابل مبالغ تصل إلى عشرة آلاف دولار للمعاملة الواحدة، مشيراً إلى أن بعض المستفيدين يقيمون خارج العراق في تركيا ودول أخرى، لكنهم تمكنوا من “شرعنة” أوضاعهم عبر هذه الشبكات الفاسدة.

فساد متشعّب: من الوثائق إلى الأراضي

لم يقتصر الفساد في الأنبار على ملف الهويات والوثائق. ففي نيسان 2023 أعلنت هيئة النزاهة عن عملية كبرى في مديرية التسجيل العقاري أسفرت عن اعتقال المدير وخمسة مسؤولين بتهم التلاعب بأضابير عشرات آلاف القطع من الأراضي. وكانت قوات خاصة قادمة من بغداد قد اعتقلت موظفين في البلدية والضريبة لذات السبب، ما كشف عن منظومة فساد مترابطة تشمل مختلف القطاعات.

كما شهد صندوق إعادة إعمار المناطق المحررة هو الآخر شبهات فساد مالي ضخمة، خاصة بعد أن تسلم حزب “تقدم” بزعامة محمد الحلبوسي زمام القرار الإداري والسياسي في المحافظة، عقب فوزه الساحق في انتخابات مجالس المحافظات.

الحلبوسي وحزب “تقدم” في الواجهة

يسيطر حزب “تقدم”، الذي يقوده رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، على القرار الأمني والإداري في الأنبار منذ الانتخابات الأخيرة. هذا النفوذ جعل أصابع الاتهام تتجه نحو الحزب كلما ظهرت فضيحة جديدة في المحافظة. فالكثير من الشهادات المحلية والإعلامية تؤكد أن الفاسدين محميون من “الحزب الحاكم”، وأن الحملات التي أطلقتها هيئة النزاهة أو لجنة مكافحة الفساد برئاسة أبو علي البصري توقفت بسبب الضغوط السياسية والمجاملات.

الضباط الصغار صاروا أثرياء

الأكاديمي في جامعة الأنبار، فلاح العاني، وصف الوضع بأنه “كارثي”، مشيراً إلى أن ضباطاً صغاراً وموظفين في الدوائر الخدمية والأمنية تحولوا بين ليلة وضحاها إلى “أثرياء”. هؤلاء اشتروا منازل فاخرة وعقارات داخل وخارج المحافظة، بفضل الأموال التي جمعوها من عمليات التزوير ومنح الهويات لعناصر داعش وأقاربهم.

العاني شدد على أن مرحلة نقل الدوائر الحكومية إلى بغداد أثناء سيطرة التنظيم كانت “الفرصة الذهبية للفاسدين”، إذ تم خلالها تمرير مئات الكتب والوثائق المزورة، قبل أن يستمر التلاعب حتى بعد التحرير بحجة إعادة إعمار المحافظة واستقبال العوائل النازحة.

حملات لم تكتمل

اللجنة العليا لمكافحة الفساد، بالتعاون مع هيئة النزاهة، باشرت في نيسان 2023 بحملة اعتقالات طالت عدداً من المسؤولين في الأنبار، آخرهم مدير هيئة التقاعد في المحافظة. لكن الحملة توقفت فجأة وسط حديث عن تدخلات سياسية. هذا التوقف أثار شكوكاً لدى الشارع المحلي بأن “الإصلاح مجرد شعارات” وأن القوى النافذة لا تسمح بفتح الملفات حتى النهاية.

نفي رسمي

رغم كل هذه المعطيات، ينفي بعض المسؤولين المحليين وجود تلاعب حالياً في الوثائق. قائممقام قضاء القائم، تركي المحلاوي، قال في تصريح صحفي إن أي بطاقة وطنية لا يمكن إصدارها إلا بعد تدقيق أمني صارم، مؤكداً أن الدوائر اليوم تعمل وفق أنظمة إلكترونية تمنع التلاعب. لكنه اعترف في الوقت نفسه بأن فترة داعش شهدت فوضى كبيرة، ما جعل كثيراً من الوثائق تصدر خارج الضوابط.

ثقة الناس بالدولة على المحك

تبدو أزمة الأنبار أعمق من مجرد تزوير هنا أو بيع وثيقة هناك. فهي أزمة ثقة بين المواطنين والدولة. فبعد أن قدّم أبناء المحافظة آلاف الضحايا في مواجهة داعش، يجدون اليوم أن بعض الفاسدين، المحميين من أحزاب نافذة، يسرقون مستقبلهم عبر صفقات في الدوائر الحكومية. ومن المفارقة أن بعض عناصر التنظيم أو ذويهم استفادوا من هذه الفوضى أكثر من العائلات المتضررة فعلاً.

الأنبار التي دُمرت مدنها تحت نار الحرب، تحتاج اليوم إلى إعادة إعمار حقيقي وعدالة صارمة، لا إلى شبكات فساد تعيد إنتاج أزمات جديدة. وإذا لم تتحرك بغداد بجدية لتطهير مؤسسات المحافظة من الفاسدين، فإن الخطر لن يقتصر على الأنبار وحدها، بل سيهدد بتوسيع دوائر الفوضى إلى عموم العراق.