الفساد يتنفس عبر الفجوة بين أدوار الرقابة على الورق وفي الواقع

انفوبلس..
بعد جدل واسع حول طرح مشروع إلغاء مكاتب المفتشين العموميين في العراق، صوّت مجلس النواب بجلسته المنعقدة في الثامن من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2019 على إلغائها، معللاً السبب بأن المجلس يسعى للترشيق الإداري ومنع الازدواجية في المهام ولغرض تسريع إجراءات مكافحة الفساد ولعدم جدوى بقاء مكاتب المفتشين العموميين.
قبل صدور قرار الإلغاء واجه مشروع القانون رفض كبير من قبل المفتشين العموميين، وصدرت عنهم العديد من المواقف الساعية لعدم تمرير القانون. المفتش العام لوزارة العدل القاضي بشار أحمد محمد، دعا أعضاء مجلس النواب إلى مناظرة علنية، بهدف إحاطتهم بما تقوم به تلك المكاتب من دور في محاربة الفساد. وقال في بيان، إن المناظرة ستُطرح خلالها منجزات جميع المكاتب من ناحية استرداد الأموال ومقارنتها بما يتم تخصيصه من ميزانية الدولة لعملها، إضافةً إلى إعداد المُحالين إلى هيئة النزاهة والقضاء من الموظفين وأصحاب الدرجات العليا.
وأضاف: إن أغلب أعضاء مجلس النواب لا تصل إليهم المعلومات الكافية عن عمل المكاتب، وخصوصاً دورها في الرقابة الاستباقية ومنع الفساد قبل وقوعه، مع إمكانياتها المالية والبشرية المحدودة. ولفت إلى أن معرقلات عمل المكاتب كثيرة، وأهمها عدم تشريع قوانين تدعم مكاتب المفتشين نحو استقلالية عملها. وتوقع أن تُثني المناظرة البرلمان عن المضيّ بتشريع قانون إلغاء المكاتب.
الأمين العام لـ"تجمع موظفي مكاتب المفتشين العموميين" فلاح الحسيناوي قال أثناء انطلاق تظاهرات ساعية لعدم تمرير القانون: نحن ندافع عن المؤسسة التي كانت لها جهود وتضحيات معروفة منذ 2004 وكانت المصدّ الأول لمواجهة الفساد في السلطة التنفيذية، لافتاً إلى أنه "من المستغرب تفكير البرلمان بإلغاء مكاتب المفتشين لمجرد وجود خلل في عمل هذا المفتش أو ذاك. جميع دوائر الدولة تشكو المشكلات والفساد موجود في بعض مفاصل هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية وغيرها من الوزارات والمؤسسات، لكنّ ذلك لا يعني إلغاءها". ويعتقد أن "بعض الكتل البرلمانية تستهدف الحلقة الأضعف، وهي حلقة المفتشين العموميين، بعد أن خسرت جولة تعيين المفتشين التي قام بها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، الذي يدعم عمل مكاتب المفتشين".
وأضاف أن "على البرلمان ألا يعالج الخلل بالخلل، يجب أن يقوم بتشريع قانون لمكاتب المفتشين يمنحهم الاستقلال المالي والإداري ولا يجعلهم تابعين إدارياً للوزير الذي يحرص على عدم نجاح عمل المفتشين باعتبار أنه إحدى الجهات الخاضعة لرقابة ومحاسبة المفتش".
يُشار إلى أن الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر قام في فبراير (شباط) 2004، بإنشاء مكتب للمفتش العمومي داخل الوزارات والهيئات غير المرتبطة بوزارة، لفحص ومراجعة جميع سجلات الوزارة وكل ما تقوم به من نشاط، بغية ضمان النزاهة والشفافية والكفاءة في عملياتها. ويتم اختيار المفتش من قِبل رئيس الوزراء استناداً إلى توصية من رئيس هيئة النزاهة، ويُقدّر عدد الموظفين العاملين في مكاتب المفتشين بنحو 10 آلاف موظف، منهم نحو 3 آلاف يعملون في مكتب المفتش العام لوزارة الداخلية.
وبعد إلغائها بعامين ونصف، كشف المفتش العام السابق لوزارة الداخلية جمال الأسدي أنه سيُبادر بإقامة دعوى أمام المحكمة الاتحادية في إطار "عدم دستورية قانون إلغاء مكاتب المفتشين العموميين".
وكتب الأسدي في تدوينة، أن "مكاتب المفتشين العموميين عودتها ضروري، حيث أُلغيت مكاتب المفتشين العموميين ظلماً وبدون أسباب حقيقية ، وكان ألغاءها وحسب رأيي لأسباب سطحية وغير مدروسة وتعرّض موظفيها لحملات ظلم كثيرة وتم توزيعهم على اختصاصات بعيدة كل البعد عن تخصّصهم أو خبراتهم".
وأضاف، صوّت مجلس النواب في جلسته اليوم (8 / 10 / 2019) على قانون إلغاء مكاتب المفتشين العموميين وكانت أحد الأسباب الموجبة للقرار هي لوجود مكاتب الادعاء العام التي كان يفترض أن تنشأ في الوزارات كافة وفق قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017، وكذلك لأن المكاتب كانت ترهّلاً إدارياً وأن إلغاءها لا يترتب عليه أثر مالي وأن الدولة ستنتفع من إلغائها.
وتابع، نحن نود أن نقول أن من تأسيس مكاتب المفتشين سنة 2004 لغاية 2019 قد تحقق التالي:
1. مجموع المبالغ المستردّة والممنوعة من الهدر أو الموصى باسترجاعها يبلغ حوالي 119 تريلون دينار عراقي تقريبا (100 مليار دولار) بحساب الدولار آنذاك.
2. مجموع الرواتب والميزانية التشغيلية حوالي 800 مليار دينار عراقي تقريباً (650) مليون دولار.
3. عدد موظفي مكاتب المفتشين العموميين الذين يتقاضون مخصصات الخطورة البالغة 75 % من الراتب الاسمي حوالي 3000 موظف فقط، وكل موظفي مكاتب المفتشين بما فيهم ممن لا يتقاضى مخصصات الخطورة 75% بحدود خمسة آلاف (5000) موظف.
4.موظفو مكاتب المفتشين لوزارة الدفاع والداخلية لا يتقاضون مخصصات الخطورة البالغة 75% باعتبار أن الوزارات أصلاً لديها مخصصات خطورة.
5. بحساب بسيط التكاليف والرواتب لمجمل مكاتب المفتشين نسبتها 1.49% من مجموع المبالغ المستردّة أو الممنوعة من الهدر أو الموصى باستردادها.
6. النسبة المحددة عالمياً لأجهزة الرقابة على السلطة التنفيذية يجب أن لا تقل عن 3 %.
7. بالمنطق العلمي أن هذه المكاتب كانت عوناً للدولة في محاربة الهدر في المال العام على الأقل إضافة إلى أعماله في مكافحة الفساد وفقاً للتحقيقات الإدارية.
الإدعاء العام في العراق..
عام 2017، شرع البرلمان العراقي، قانون الادعاء العام، حيث تضمن جملة بنود اعتبرها قانونيون بأنها تصبّ في صالح عمل المدّعين العموميين.
ونصّ القانون على أن من واجبات الادعاء العام إقامة الدعوى بالحق العام وقضايا الفساد المالي والإداري ومتابعتها استناداً إلى قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (٢٣) لسنة ١٩٧١ المعدّل.
كما نصّ على أنه يحق للادعاء العام التحقيق في جرائم الفساد المالي والإداري الجرائم كافة المخلّة بواجبات الوظيفة العامة المنصوص عليها في قانون العقوبات رقم (١١١) لسنة ١٩٦٩ (المعدل) طبقا لأحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (٢٣) لسنة ١٩٧١ المعدّل على أن يُحيل الدعوى خلال (٢٤) ساعة إلى قاضي التحقيق المختص من تاريخ توقيف المتهم.
وعلى رغم تلك السلطات والصلاحيات، فإن جهاز الادعاء العام في العراق ما زال غير فاعل، وهو بحاجة إلى إنعاش فوري، في ظل الحاجة الماسّة إليه.
المحامي العراقي عمار الحمداني، يرى أن "الادعاء العام بحاجة إلى دفعات كبيرة من الدعم لأخذ دوره، فكما هو واضح للجميع، عدم تمكنه من أداء أي دور، ومن المستغرب أن يبقى القُضاة في هذا الجمود، خاصة وأن البلاد تعاني انتشار الفساد المالي والإداري، وكثيرة الملفات التي تحتاج إلى متابعات".
وأضاف الحمداني، أن "القوانين العراقية منحت المدّعي العام حق رفع أية دعوى قضائية يريدها، وأعطته سلطات كبيرة في تعقّب ملفات الفساد والتقصير في أداء الجهاز التنفيذي وحضور المرافعات القضائية ومراقبة كيفية تطبيق القوانين وغيرها".
ما السر وراء غياب دور المفتشين العموميين والإدعاء العام عن الوزارات؟..
من المعلوم أن الفساد في العراق لم يترك مفصلاً في الدولة إلا وحاول التغلغل فيه، فبسبب ضعف الرقابة من جهة والصراعات السياسية من جهة أخرى وتضارب الأدوار والروتين من جهة ثالثة، ينتشر الفساد حتى في الأماكن التي وُجِدت لمحاربته، ولا يُستثنى من ذلك الإدعاء العام ومكاتب المفتشين العموميين، على الرغم من وجود مساعٍ جديدة لمحاربة الفساد وعدم تمكينه من اختراق مؤسسات كتلك المذكورة لكن الصراع مستمر بين المعسكرين حتى يومنا هذا.
الادعاء العام في العالم المتحضّر يشكل أحد أهم الضمانات الدستورية لمأسسة دولة المواطنة والقانون. وتكريس مبدأ المشروعية في الحياة السياسية العامة. هذا وأن وظيفة واختصاصات جهاز الادعاء العام يختلف باختلاف وطبيعة السلطة السياسية والاقتصادية والتركيبة الاجتماعية للدولة.. حيث نجد المدّعى العام في العديد من الدول يمتلك سلطات واختصاصات واسعة تمتد أحيانا لتغطّي الرقابة على أعمال ونشاطات السلطتين التنفيذية والتشريعية وقد تصل إلى إقالة رئيس الوزراء والوزراء وأعضاء مجلس النواب من أجل الحفاظ على النظام العام والتصدي للفساد والجريمة المنظمة وتهديد مقومات الدولة الدستورية في العديد من الدول المؤسساتية، ولكن بجانب آخر نجد الادعاء العام مهمّشاً ونادراً ما نسمع له فعاليات وأنشطة قانونية شجاعة وهذا مايحدث في الكثير من البلدان في ظل غياب سلطة القانون.
يرى مراقبون أن أدوار مكاتب المفتشين العموميين في الوزارات ودور الادعاء العام مهمّشة في العراق بشكل متعمّد وبواسطة أذرع سياسية فاسدة متغلغة في مفاصل مؤسسات السلطات الثلاثة، وعلى الرغم من وجود الكثير من الجهات والشخصيات النزيهة التي تسعى إلى محاربة الفساد بشكل جدي وتفعيل الأدوار الرقابية إلا إن الطريق لا يزال طويلاً أمامهم للقضاء على شبكات الفساد المتجذّرة في مفاصل الدولة.
القاضي العراقي إياد محسن ضمد، يرى أن النظام القانوني العراقي المعني بمكافحة جرائم الوظيفة العامة يفشل في رسم آلية قانونية وإدارية ناجحة لمكافحة الفساد..
يفشل كذلك في إيكال مهمة التحقيقات الإدارية لكشف جرائم الفساد المالي والإداري للجان تحقيقية محايدة لا تخضع لضغوطات وإملاءات الرئيس الإداري الأعلى، فالمادة ١٠ من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم ١٤ لسنة ١٩٩١ رسمت آليات تشكيل اللجان التحقيقية، إذ يشكل الوزير أو رئيس الدائرة اللجنة للتحقيق مع الموظف المخالف والمُحال إليها وإذا وجدت اللجنة أن الفعل يشكل جريمة تقرر إحالته إلى المحاكم المختصة، أي إن التحقيق يجري في ذات المؤسسة التي حصل فيها الاتفاق والتواطؤ الذي مهّد لارتكاب جريمة الفساد والتحقيق كذلك يجري في بيئة وظيفية لا يتصور خلوها من عمليات الضغط والترويع الذي يمارس على اللجان التحقيقية لحرف مسارات التحقيق عن جادة الحقيقة وتقديم التوصيات، أما بعدم وجود الجريمة أو بتقصير صغار الموظفين وحماية كبار المسؤولين وعدم إحالتهم إلى المحاكم.
ويضيف، وأكاد أجزم أن كاتب نص المادة ١٠ من القانون أعلاه كتبه وهو لا يتصور أن يكون الوزير أو رئيس الدائرة إما ضالع بارتكاب جريمة الفساد بنفسه أو أن الجريمة ارتُكبت بعلمه وتحت مظلّته ورعايته لذلك أوكل إليه مهمة تشكيل اللجان والمصادقة على توصياتها لما يتوقعه من أمانة لدى شخص قررت الحكومة استيزاره حيث يُفترض فيه قدر عالٍ من المهنية والإخلاص، كذلك الحال بالنسبة لتحديد قيمة الضرر والهدر بالمال العام الذي ينتج عن جرائم الفساد، إذ أوكلت المادة الثانية من قانون التضمين مهمة تشكيل لجنة تحديد مقدار الضرر للوزير المختص، ولذلك فإن أغلب التحقيقات الإدارية وتوصيات لجان التضمين توصي بعدم وجود المقصّريات وعدم تضمين الموظف المخالف لعدم وجود الضرر بالمال العام. وإزاء هذا الخلل التشريعي الكبير فليس من المتصور أن يتم كشف جرائم الفساد الكبيرة لعدم وجود جهاز محايد ومستقل يتولى إجراء التحقيق الإداري وبيان مقدار الضرر بالمال العام، جهاز يخرج عن سيطرة الوزارة وضغوطات المسؤولين ممن يرتكبون جرائم الفساد ويسعون إلى إخفائها لاسيما بعد حلّ مكاتب المفتشين العموميين تلك التجربة الرقابية التي كانت تحتاج إلى شيء من المراجعة والتقويم لتصحيح مساراتها بدلا من الإجهاز عليها وحلّها وفتح الباب مُشرَعاً لسرقة المال العام في الوزارات بلا رقابة قبلية أو بعدية.
وتابع، صحيح أن هيئة النزاهة مؤسّسة مستقلة إلا إن القانون لم يمنحها صلاحيات إجراء التحقيقات الإدارية وفرض العقوبات الإدارية مثل الفصل والعزل وتحديد مقدار الهدر بالمال العام كذلك فإن ديوان الرقابة المالية يشخّص المخالفات ولا يجري أي تحقيقات إدارية وإنما يقدّم تقارير فنية بالمخالفات المالية والإدارية دون بيان المقصرين، وإزاء هذا الخلل القانوني البنيوي الخطير أصبح لزاماً على صناع القرار التشريعي والمؤسسي أن يضعوا المعالجة المناسبة بسحب صلاحيات تشكيل اللجان التحقيقية ولجان التضمين من الوزراء وليتم إيكالها إلى جهاز أو هيئة مستقلة تعمل بحياد بعيدا عن أي ضغوطات لكشف جرائم الفساد وتحديد المقصرين وبيان مقدار الضرر في المال العام من خلال تشريع قانون يؤسس هذا الجهاز ويمنحه الصلاحيات المذكورة آنفاً.