شبح التسعينيات يعود: أحداث "السليمانية" تهدد بانهيار التجربة الكردية وتعطل تشكيل الحكومة
انفوبلس/ تقرير
تتصاعد الأحداث في السليمانية بشكل متسارع، حيث كشفت التطورات الأخيرة عن عمق الأزمة السياسية والأمنية التي تعصف بإقليم كردستان. ففيما أسفرت عملية أمنية عن اعتقال رئيس جبهة الشعب، لاهور شيخ جنكي، تبين أن الأزمة تتجاوز حدود الخلافات الداخلية لتمتد إلى العلاقات المتوترة بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم، الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني.
الأحداث الأخيرة، التي بدأت بما يُعرف بـ"ليلة الجمعة"، كشفت عن انهيار شامل للاتفاقات بين الطرفين، وأعادت إلى الواجهة شبح الصراعات الماضية، خاصة في ظل تحذيرات من الانزلاق نحو "ما لا يُحمد عقباه".
من المواجهة المسلحة إلى اتهامات الاغتيال
شهدت ليلة الخميس-الجمعة الماضية، في السليمانية، مواجهة مسلحة عنيفة بين القوات الأمنية التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني وبين أنصار لاهور شيخ جنكي. القوة المداهمة، المكونة من جهاز مكافحة الإرهاب والقوات الخاصة "كوماندوز" المرتبطة بـ بافل طالباني، نفذت عملية لاعتقال شيخ جنكي، انتهت باعتقاله فجر اليوم التالي.
وقد أسفرت هذه المواجهة عن مقتل 3 من عناصر القوة المداهمة وشخص من حماية شيخ جنكي، بالإضافة إلى إصابة 25 شخصاً من الطرفين واعتقال العشرات.
وفي تطور خطير، بث جهاز الأمن في السليمانية، مقاطع فيديو لاعترافات المعتقلين من أنصار شيخ جنكي. وقد كشفت هذه الاعترافات عن وجود مخطط لاغتيال رئيس الاتحاد الوطني بافل طالباني وشقيقه نائب رئيس حكومة الإقليم قوباد طالباني.
وحسب الاعترافات، كان المخطط يعتمد على استخدام طائرات مسيرة انتحارية وقناصين. وقد تم تدريب وتصنيع هذه الطائرات في أوكرانيا، واعترف المعتقلون بأنها كانت جاهزة وقد دخلت بالفعل إلى السليمانية. وخلال عملية المداهمة، تم إطلاق اثنتين من هذه الطائرات من مقر شيخ جنكي نحو منطقة "بداشان"، حيث يقع مقر إقامة بافل طالباني، ما يؤكد جدية المخطط وخطورته.
وبالتوازي مع هذه الأحداث، كشف مصدر عن صدور أمر قبض من السليمانية بحق ازي أمين، رئيس مجلس الأمن في أربيل. وقد صدر الأمر بناء على نفس المواد القانونية التي صدرت بموجبها مذكرة القبض بحق شيخ جنكي، في إطار التحقيقات التي تجريها محكمة تحقيق الأمن في السليمانية.
وهذه الواقعة أثارت ردود فعل سياسية واسعة، حيث اعتبرها مراقبون أكبر اختبار أمني في الإقليم منذ سنوات، وسط دعوات لاحتواء الموقف ومنع انزلاقه إلى مواجهة أوسع.
انهيار الاتفاقات وحرب إعلامية
الأحداث الأمنية في السليمانية كانت بمثابة الشرارة التي أشعلت التوتر السياسي القائم أصلاً بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث كشفت معلومات عن "انهيار" كافة الاتفاقات التي كانت قائمة بين الطرفين بشأن تفعيل برلمان الإقليم وتشكيل حكومة جديدة.
ومنذ أشهر، لا يزال برلمان الإقليم معطلا، رغم إجراء الانتخابات فيه بإشراف من مفوضية الانتخابات الاتحادية، ولم يصل الحزبين الكرديين الرئيسيين لأي اتفاق يفضي إلى تشكيل الحكومة، وقد جرت العديد من الاجتماعات في السليمانية وأربيل لحسم النقاط الخلافية وطبيعة المناصب، لكن دون جدوى.
يؤكد القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، غياث سورجي، أن حزبه لا يتحمل مسؤولية الفشل في تأخير تشكيل حكومة إقليم كردستان. وجاء تصريح سورجي ليضع كامل المسؤولية على الحزب الديمقراطي الكردستاني، محملاً إياه عواقب عودة التوتر بين الطرفين.
وأوضح سورجي أن الاتحاد الوطني قدَّم في الفترة الماضية "بوادر حسن نية" عبر عقد اجتماعات مع الحزب الديمقراطي، تم خلالها الاتفاق على الإسراع في تشكيل الحكومة وتفعيل البرلمان. وأضاف أن "ما حصل بعد العملية الأمنية في السليمانية"، التي أدت إلى اعتقال لاهور شيخ جنكي بموجب أمر قضائي، هو ما أعاد التوتر مجدداً. واتهم سورجي وسائل الإعلام التابعة للحزب الديمقراطي بـ "تحريف المشهد" ونشر معلومات غير صحيحة بهدف تشويه صورة السليمانية.
وشدد القيادي على أن الحزب الديمقراطي هو من يتحمل الأخطاء، معتبراً أنه "كان من المفترض أن يقف مع شريكه السياسي، الذي كاد أن يتعرض لمؤامرة انقلابية".
في خضم الاتهامات المتبادلة مع الاتحاد الوطني الكردستاني، أكد عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني، صالح عمر، أن حزبه لا علاقة له بالأحداث الأخيرة في السليمانية. وشدد على أنه لا يجوز ربط القضايا الأمنية الرئيسية بملفات أساسية مثل تشكيل الحكومة، التي تعتبر أولوية لمصلحة المواطن الكردي.
وذكر عمر أن الحزب الديمقراطي الكردستاني كان منذ البداية مؤيداً للإسراع في تشكيل الحكومة وتفعيل دور البرلمان. ولكنه أشار إلى وجود "طرف معطل" يسعى إلى الحصول على مناصب سياسية تفوق استحقاقه.
كما تصاعدت حدة "الحرب الإعلامية" بين الجانبين، حيث يجهز كل طرف لملفات اتهام ضد الآخر. وتأتي هذه التوترات بالتزامن مع ذكرى "الحرب الأهلية" التي اندلعت بين الحزبين عام 1996. وفي هذا السياق، يجهز الاتحاد الوطني الكردستاني وإعلامه اتهامات ضد الحزب الديمقراطي وزعيمه مسعود بارزاني، تتعلق بالاستعانة بالجيش العراقي إبان نظام صدام حسين خلال تلك الفترة.
عضو الاتحاد الوطني، غازي كاكائي، انتقد بشدة ما وصفه بـ"المبالغة الإعلامية ونشر الأكاذيب" من قبل إعلام الحزب الديمقراطي بعد أحداث السليمانية. واتهم إعلام الحزب الديمقراطي بمحاولة "زعزعة الاستقرار في السليمانية" و"الغطاء على حدث معين". وأضاف أن إعلام الحزب الديمقراطي، بدلاً من دعم سلطة القانون والقضاء، قام بدعم "الفوضى والمؤامرات ضد مدينة آمنة ومستقرة مثل السليمانية".
وأشار كاكائي إلى أن المواطن الكردي كان ينتظر خطوات أكبر من الحزبين لحل المشاكل وتشكيل الحكومة، لكن ما جرى "أعاد الوضع للمربع الأول". وحمّل الحزب الديمقراطي الكردستاني مسؤولية ما حدث، متهماً إياه بالمماطلة في عملية تشكيل الحكومة، والسعي لتأجيلها إلى ما بعد الانتخابات العراقية من أجل المساومة على منصب رئيس الجمهورية والمناصب الأخرى.
وشدد كاكائي على أن "من يستهدف السليمانية يستهدف أمن الإقليم، ويحاول إضعاف الكيان الدستوري"، مؤكداً أن هذا الأمر واضح من خلال عدم احترامهم لسلطة الأمن والقضاء التي كان لها موقف حاسم في الأحداث الأخيرة.
سياق الأزمة ودور بغداد
إن الصراع الدائر في الإقليم، كما يوضح رئيس مركز الرفد للدراسات، عباس الجبوري، ليس وليد اللحظة. فالتوتر بين الحزبين يتكرر مع قرب موعد كل انتخابات، سواء كانت في الإقليم أو على مستوى البرلمان العراقي. وأشار الجبوري إلى حالة من "التشتت" في المشهد السياسي الكردي مع نشوء أحزاب جديدة تنافس الحزبين الرئيسيين.
وفي ظل هذا التصعيد، يبرز التساؤل عن دور الحكومة الاتحادية في بغداد. حيث يؤكد الجبوري أن "يفترض على الحكومة الاتحادية فرض سيطرتها على الإقليم، لضمان عدم انزلاق الوضع إلى ما لا يحمد عقباه، خاصة في ظل تبادل الاتهامات وتصاعد التوتر بين حزبين رئيسين". وتابع معرباً عن أسفه لعدم وجود أي موقف للحكومة، ولو على سبيل الوساطة وتقريب وجهات النظر، واصفاً موقفها بأنه "ضعيف نسبياً".
الصراع الداخلي في الاتحاد الوطني
تعود جذور الأزمة الأمنية الأخيرة إلى الصراع الداخلي المحتدم منذ سنوات داخل الاتحاد الوطني الكردستاني. فالحزب، الذي يعد ثاني أكبر الأحزاب في الإقليم ويتمتع بنفوذ كبير في محافظة السليمانية، شهد انقسامات حادة أبرزها صراع قيادته.
وفي عام 2021، قام بافل طالباني بتجريد ابن عمه لاهور شيخ جنكي من منصب الرئيس المشترك للحزب، والاستيلاء على المؤسسات التي يمتلكها، كما قام بتجريد أشقاء جنكي من جميع مناصبهم وامتيازاتهم.
وقد أسس لاهور شيخ جنكي بعد عزله حزباً جديداً باسم "بەرەی گەل" (جبهة الشعب)، شارك في انتخابات برلمان كردستان عام 2024 وحصل على مقعدين.
وتشير هذه الخلفية إلى أن الأحداث الأخيرة في السليمانية ليست مجرد مواجهة أمنية عابرة، بل هي حلقة جديدة في صراع على السلطة والنفوذ بين أبرز قادتين داخل حزب الاتحاد الوطني، وهو صراع يلقي بظلاله على مجمل المشهد السياسي في إقليم كردستان ويهدد استقراره الهش.
كما أن أحداث السليمانية لم تعد مجرد خلاف حزبي داخلي، بل تحولت إلى أزمة وجودية تهدد التجربة الكردية برمتها. في ظل غياب موقف حاسم من بغداد، وتصعيد إعلامي وسياسي بين الاتحاد الوطني والديمقراطي، يخشى مراقبون وسياسيون أن يفتح الصراع الباب أمام مرحلة خطيرة، قد تعيد الإقليم إلى أجواء صراع التسعينيات.

