"إقليم البصرة" بين الحق الدستوري وتساؤلات التوقيت ومدى القبول الشعبي
إجراءات قانونية أم ورقة ضغط؟
انفوبلس..
في كل مرة تمرّ بها البلاد بمرحلة سياسية حرجة أو انسداد في الأفق الحكومي، تعود إلى الواجهة مشاريع كبرى مؤجلة، من بينها مشروع تحويل محافظة البصرة إلى إقليم.
وبينما يُطرح هذا الخيار بوصفه حقًا دستوريًا، يثير توقيته وطريقة تداوله تساؤلات جدية حول دوافعه الحقيقية، وما إذا كان تعبيرًا عن إرادة شعبية راسخة، أم انعكاسًا لخلافات سياسية تتخذ من الدستور مظلةً لها أكثر من كونها استجابة لمطلب جماهيري واسع.
عودة المشروع إلى الواجهة من بوابة الإجراءات
وأعلنت منظمة "بصرياثا للثقافة الفيدرالية”، في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2025، عن استحصالها موافقة مفوضية الانتخابات لإطلاق استمارة جمع تواقيع تمثل نسبة 2% من ناخبي محافظة البصرة، في خطوة تمهيدية للشروع بالإجراءات الدستورية الخاصة بتشكيل “إقليم البصرة”.
وقال رئيس المنظمة، عمار سرحان، إن هذه الخطوة جاءت بعد حراك استمر لأكثر من عشر سنوات، تخللته مطالبات ومتابعات رسمية، انتهت بتقديم طلب إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والاستناد إلى المادة 119 من الدستور العراقي وقانون رقم 13.
وبيّن أن المنظمة ستتولى جمع التواقيع بالتنسيق مع كيانات سياسية داعمة وناشطين ومنظمات مجتمع مدني، على أن تُستكمل لاحقًا نسبة 10% المطلوبة قانونيًا.
ورغم التأكيد المتكرر من القائمين على المشروع بأن التحرك يجري ضمن السياق الدستوري والقانوني، إلا أن هذا الطرح لم يخلُ من علامات استفهام، لا سيما مع عودة المشروع في توقيت يتسم بحساسية سياسية واضحة، الأمر الذي دفع مراقبين إلى ربطه بسياق الخلافات السياسية أكثر من كونه نتيجة ضغط شعبي منظم ومستمر.
مشروع قديم… وسياقات متغيرة
فكرة “إقليم البصرة” ليست وليدة اللحظة، فمنذ إقرار الدستور العراقي عام 2005، طُرحت إمكانية تحويل المحافظة إلى إقليم، وظهرت سياسيًا بشكل أوضح عام 2008، قبل أن تخبو وتعود مجددًا بعد احتجاجات 2018، وصولًا إلى محاولات أكثر تنظيمًا في السنوات الأخيرة.
غير أن اللافت في مسار هذا المشروع هو أنه غالبًا ما يعود إلى الواجهة في لحظات التوتر السياسي أو الاحتقان الخدمي، دون أن يتحول إلى مطلب جماهيري جامع، أو أن يحظى بإجماع واضح داخل المجتمع البصري نفسه.
فالبصرة، رغم معاناتها المزمنة من مشكلات الخدمات والبطالة والتلوث، لم تُظهر في استطلاعات الرأي أو الحراك الشعبي المتواصل توجهًا ثابتًا نحو خيار الإقليم بقدر ما عبّرت عن رغبتها في إصلاح الإدارة وتحسين الأداء الحكومي.
التحذير من الاستعجال والانقسام
في هذا السياق، حذّر مسؤول منظمة “بدر” في البصرة، خلف البدران، من التسرع في هذا الملف، مؤكدًا أن أي خطوة عملية يجب أن تراعي عاملين أساسيين: أولهما التوقيت والظرف السياسي والاقتصادي العام، وثانيهما قناعة الجمهور البصري نفسه.
وأشار البدران إلى أن الأغلبية الشعبية هي المرجع الحقيقي لأي قرار مصيري يتعلق بمستقبل المحافظة، وأن أي تحرك لا يستند إلى توافق شعبي واسع قد يؤدي إلى نتائج عكسية، أبرزها تعميق الانقسام داخل المجتمع المحلي، وإضعاف فرص النجاح حتى لو استوفى المشروع شروطه القانونية.
هذا الطرح يعكس رؤية تتعامل مع الدستور كإطار منظم، لا كأداة لتجاوز الواقع الاجتماعي والسياسي، خاصة في ظل هشاشة الثقة بين المواطنين والمؤسسات، وهو ما يجعل أي مشروع كبير بحاجة إلى حاضنة شعبية حقيقية، لا مجرد مسار إجرائي.
من جهتها، عبّرت عضوة مجلس محافظة البصرة، زهراء السلمي، عن كتلة “صادقون”، عن موقف حذر تجاه مشروع الإقليم، ووصفت بعض الطروحات المتعلقة به بأنها “أضغاث أحلام” في الظرف الراهن.
وأكدت السلمي أن الأولوية يجب أن تكون لمعالجة المشكلات اليومية التي يعاني منها المواطن البصري، من خدمات وبنى تحتية وفرص عمل، بدل الانشغال بمسارات سياسية قد لا تتناسب مع الواقع الحالي. ورأت أن أي نقاش جاد حول الإقليم يجب أن يستند إلى توافق شعبي وسياسي واضح، محذّرة من أن طرحه دون هذا التوافق قد يزيد من حالة التشتت داخل مجلس المحافظة والمجتمع.
الدستور ليس خلافًا عليه.. بل على توقيت استخدامه
في المقابل، شدد مستشار ائتلاف دولة القانون، عباس الموسوي، على أن قضية إقليم البصرة تخضع لآليات دستورية محددة لا يمكن تجاوزها، مؤكدًا أن العراق بلد ديمقراطي يقوم على التصويت والاستفتاء، وأن رأي المواطنين يجب أن يكون الأساس في أي قرار من هذا النوع.
غير أن الموسوي أشار إلى أن الأولوية الحالية ينبغي أن تكون لاكتمال تشكيل الحكومة واستقرارها، معتبرًا أن أي خطوات كبرى قبل تحقيق هذا الاستقرار قد تكون غير مجدية أو حتى مخلّة بالتوازن السياسي العام، ما يستدعي قراءة معمقة للسياق الوطني قبل الذهاب إلى خيارات مصيرية.
تضارب التصريحات… وربكة المشهد
زاد الجدل تعقيدًا مع تضارب التصريحات الصادرة عن مفوضية الانتخابات. ففي حين أعلن مدير مكتب المفوضية في البصرة، حيدر محمد، عن تزويد استمارات جمع التواقيع، نفت المفوضية في بغداد ذلك بشكل قاطع، مؤكدة أن أي حديث عن موافقة رسمية غير دقيق، وأن الكتاب المتداول لا يمثل موقفها الرسمي.
هذا التضارب عزز قناعة شريحة من المراقبين بأن الملف لا يزال محاطًا بقدر من الإرباك، وأنه لم يصل بعد إلى مرحلة الوضوح المؤسسي، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول مدى جاهزية المشروع، وحول ما إذا كان قد استُخدم كورقة ضغط سياسية في مرحلة حساسة.
قراءة سياسية: الخلاف قبل الرغبة الشعبية
يرى محللون سياسيون أن التحرك الحالي لإقامة إقليم البصرة يأتي في إطار حالة الربكة السياسية التي تسبق تشكيل الحكومات، وليس بوصفه تعبيرًا عن رغبة انفصالية أو فيدرالية شعبية واسعة.
ويؤكد هؤلاء أن الانفصال النفسي أو الاجتماعي بين البصرة وبقية المحافظات غير موجود، وأن ما يُطرح غالبًا تقوده قوى سياسية تسعى لإعادة ترتيب مواقعها أو تحسين شروط تفاوضها.
ويذهب المحللون إلى أن البصرة، رغم مكانتها الاقتصادية، لا يمكن اختزال مشاكلها في صيغة إدارية جديدة، بل تحتاج إلى إدارة كفوءة، وعدالة في توزيع الموارد، وإصلاح مؤسسات الدولة، وهي مطالب لا يشترط تحقيقها بالضرورة الذهاب نحو خيار الإقليم.
وفي المحصلة، لا يبدو الجدل حول “إقليم البصرة” خلافًا على النص الدستوري بقدر ما هو خلاف على توقيت استخدامه وأهداف طرحه، فبينما يكفل الدستور هذا الحق، فإن تحويله إلى مشروع واقعي يتطلب توافقًا شعبيًا صريحًا، ورؤية وطنية تضع الاستقرار والإصلاح في مقدمة الأولويات، بعيدًا عن توظيف القضايا الكبرى في صراعات سياسية ظرفية لا تعكس بالضرورة إرادة الشارع.