العائلة تُفاقم الأزمات.. من النزاع السياسي إلى العداء النفسي.. حلقة مفرغة تحكم عقلية القادة العائليين.. آل طالباني إنموذجاً
انفوبلس..
بعد وفاة جلال طالباني عام 2017، تفاقم الخلاف حول قيادة الاتحاد الوطني. لاهور شيخ جنكي، الذي كان يشغل منصباً أمنياً مؤثراً في جهاز "زانياري"، شعر أن مكانته وخبرته تضعه في موقع المنافس الطبيعي لابن العم بافل طالباني. لكن بافل، المدعوم بشرعية الوراثة المباشرة، تمسّك بالقيادة باعتبارها امتداداً لإرث والده. هذه الثنائية غذّت صراعاً مكتوماً سرعان ما تحول إلى مواجهة مفتوحة.
وفي يوم الخميس 21 آب 2025، تحوّل فندق لالازار في السليمانية إلى ساحة معركة دموية استمرت لساعات، أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة عشرات آخرين. هذه المعركة لم تكن عملية أمنية عادية، بل كانت تجسيداً صارخاً لحقيقة سيكولوجية بيّنة وهي أن الصراعات العائلية في السياسة لا تنتهي أبداً، حتى لو تفرق أطرافها إلى أحزاب مختلفة.
المعركة دارت بين قوات الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة بافل طالباني (ابن الزعيم التاريخي للحزب جلال طالباني) من جهة، وقوات لاهور شيخ جنكي (ابن أخ جلال طالباني) المتحصّن داخل الفندق من جهة أخرى. لكنّ ما يجعل هذا الحدث استثنائياً ليس العنف المستخدم فحسب، بل التوقيت؛ لأن لاهور لم يعد عضواً في الاتحاد الوطني، بل أسّس حزبَه الخاص “جبهة الشعب” منذ سنوات، ومع ذلك، بقي بالنسبة لبافل والاتحاد، تهديداً وجودياً يجب القضاء عليه.
هذا المشهد يكشف عن حراك سيكولوجي معقّد في عقلية القادة العائليين، فالخصم يبقى خصماً إلى الأبد، مهما تغيّرت الظروف ومهما طال الزمن أو تعددت المنصات السياسية.
البنية العائلية للأحزاب
تقوم معظم الأحزاب السياسية في الشرق الأوسط وكردستان العراق على أساس عائلي، هذه البنية تحمل في طياتها مفارقة خطيرة، فبينما توفّر التماسك والولاء في البداية، تزرع بذور صراعات ومؤامرات وشكّ على المدى البعيد.
عائلة طالباني التي أسّس أحد أفرادها، وهو جلال طالباني، الاتحاد الوطني الكردستاني، وعائلة البارزاني التي تقود الحزب الديمقراطي الكردستاني، نموذجان واضحان لهذه الظاهرة. في البداية، تبدو هذه البنية العائلية مثالية تتمتّع بالثقة العالية والولاء الكبير والتماسك الاجتماعي الذي يوفّر قاعدة صلبة للحزب، لكن هذه المزايا نفسها تتحول مع الوقت إلى لعنة سيكولوجية.
عندما يترعرع أبناء العائلة الواحدة في بيئة سياسية، فإنهم يتشربون منذ الصغر فكرة أنّ السياسة هي إما أن تُهيمِن أو يُهيمَن عليك، هذه العقلية تخلق أشخاصاً غير قادرين على تصوّر وجود منافسة صحية أو تعايش سلمي، حتى لو كانوا بين أبناء الدم نفسه.
عندما يؤسس لاهور شيخ جنكي حزباً جديداً، فإن بافل طالباني لا يراه منافساً سياسياً عادياً، بل خصماً تاريخياً، فهو يحمل في ذاكرته كلّ الصراعات والإقصاءات السابقة، كما يشاطره بالذاكرة والإرث العائليين.
عقدة النقص المتبادلة
كل طرف في الصراع العائلي يعاني من عقدة نقص خاصة، بافل طالباني، رغم كونه وريثاً لوالده، يعلم أن لاهور يتمتع بخبرة أمنية وعسكرية كبيرة وشبكة علاقات واسعة، من ناحية أخرى، لاهور يعاني من عقدة كونه “ابن الأخ” وليس الابن المباشر، مما يجعله يشعر بالحاجة المستمرة لإثبات استحقاقه للقيادة.
هذه العقد المتبادلة تغذي المنافسة المدمرة، حيث كل طرف يحاول تعويض نواقصه بإظهار القوة والهيمنة. الحزب الجديد الذي يؤسسه الطرف المنشق لا يُنظر إليه على أنه محاولة للتطوير السياسي، بل على أنه أداة لإثبات التفوق وتحدي الطرف المهيمن.
في نظر قائد العائلة السياسية، أي منافس من العائلة نفسها يمثل تهديداً وجودياً، ليس فقط لسلطته، بل لشرعيته ووجوده السياسي بأكمله، هذا لأن المنافس العائلي يملك نفس الادعاءات التاريخية والاجتماعية للقيادة، مما يجعل وجوده المستقل تشكيكاً مستمراً في شرعية القائد الحالي.
عندما أسس لاهور حزبه الجديد، لم يكن بافل قادراً على رؤيته خياراً سياسياً بديلاً، بل رآه تحدياً مباشراً لشرعيته بوصفه وريثاً لجلال طالباني، كل نجاح يحققه لاهور في حزبه الجديد يعدّ دليلاً على أن الخيار “الصحيح” لقيادة إرث جلال كان يجب أن يكون لاهور لا بافل.
سيكولوجيّة الشك الدائم
في العقلية العائلية السياسية، لا يوجد شيء اسمه “تنازل نهائي” أو “انسحاب شريف”. كل خطوة يقوم بها المنافس تُفسر بوصفها تكتيكاً مرحلياً لتحقيق هدف نهائي واحد: الهيمنة الكاملة. عندما أسس لاهور حزبه الجديد، لم يقرأ بافل هذه الخطوة على أنها محاولة للعمل السياسي المستقل، بل رآها استراتيجية ماكرة لبناء قاعدة قوة منفصلة.
هذه القراءة تقوم على فهم عميق لطبيعة الصراع العائلي، ففي التاريخ السياسي، نادراً ما نجد حالات يكتفي فيها المنشق العائلي بدور المعارض البناء، الغالبية العظمى من هذه الحالات تنتهي بمحاولة العودة للسيطرة على المؤسسة الأصلية، أو على الأقل تدميرها إذا تعذرت السيطرة عليها.
في خيال القائد العائلي، المنافس الذي أسس حزباً جديداً يخطط دائماً لسيناريو “العودة المظفرة”، هذا السيناريو يتضمن تقوية الحزب الجديد، وبناء تحالفات خارجية، واستغلال أي أزمة تواجه الحزب الأصلي للعودة إليه على أنه ”منقذ” أو “مصلح”.
وبافل طالباني يرى أن لاهور يبني قاعدة قوة في حزبه الجديد ليس من أجل العمل السياسي المستقل، بل استعدادا لاقتناص الفرصة المناسبة للعودة والسيطرة على الاتحاد الوطني، وكل نجاح يحققه لاهور، كل تحالف يبنيه، كل منصب يحصل عليه، يُقرأ بوصفه خطوة في هذا المخطط الكبير.
الخوف من التحالف الخارجي
ما يزيد من حدة هذا الخوف هو إمكانية تحالف المنافس العائلي مع قوى خارجية. في حالة لاهور، خبرته الأمنية وعلاقاته الإقليمية والدولية تجعله قادراً على بناء تحالفات قد تتجاوز الحدود المحلية، هذا يخلق في ذهن بافل سيناريوهات مرعبة، حيث يعود لاهور مدعوماً بقوى خارجية للإطاحة به، لذا كانت إحدى ذرائع القبض على لاهور هي التخطيط للانقلاب على السلطة في السليمانية.
هذا الخوف ليس وهماً، فالتاريخ السياسي في المنطقة مليء بحالات استخدمت فيها قوى خارجيةٌ الصراعاتِ العائليةَ لتحقيق أهداف جيوسياسية، كلّ صراع في العائلة هو بمثابة ورقة قويّة بيد القوى الخارجية، وكلّ طرف في الصراع يحاول الحصول على دعم خارجي، مما يجعل الصراع المحلي جزءاً من لعبة إقليمية ودولية أكبر.
حالة عائلة طالباني: تحليل سيكولوجي للصراع
قبل أن يؤسس لاهور حزبه الجديد، كانت الصراعات داخل عائلة طالباني تدور في الخفاء. بعد وفاة جلال طالباني، بدأ صراع خفي بين ابنيه بافل وقوباد من جهة، وابن عمهم لاهور من جهة أخرى.
الصراع لم يكن حول توزيع المناصب، بل كان صراعاً حول الهوية والإرث والشرعية. لاهور، الذي شغل منصب رئيس جهاز زانياري في حزب الاتحاد الوطني لسنوات، كان يتمتع بنفوذ أمني وعسكري كبير. في المؤتمر الذي أعقب وفاة جلال الطالباني حصل لاهور على أصوات أكثر من بافل لقيادة الاتحاد، مما خلق أزمة كادت تنفجر، تم ترحيل الأزمة إلى آن آخر، وذلك باقتراح غريب، وهو إقرار رئيسين اثنين للاتحاد مما يعبر جليّاً عن حقيقة الأزمة التي واجهت الاتحاد الوطني. لاهور كان يرى نفسه الأكثر كفاءة وخبرة لقيادة الحزب، خاصة في ظل التحديات الأمنية التي تواجه كردستان، من ناحية أخرى، بافل كان يرى نفسه الوريث “الشرعي” لوالده.
هذا الصراع الصامت كان يتغذى على تفسيرات مختلفة لكل حدث، كل تعيين، كل قرار، كل لقاء، كان يُقرأ من خلال عدسة الصراع على الوراثة. الطرفان كانا يحاولان تعزيز موقعيهما داخل الحزب، لكن دون إعلان الصراع إعلاناً صريحاً، ربما احتراماً لذكرى جلال طالباني، وحفاظاً على وحدة الحزب ظاهرياً.
الانشقاق: التحرر من الوهم
عندما قرّر لاهور تأسيس “حزب جبهة الشعب”، اعتقد أنه وجد الحل المثالي للصراع، ففي نظره، الانفصال سيتيح له بناء مشروعه السياسي المستقل دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة مع أبناء عمه، هذا القرار، الذي بدا عقلانياً ومنطقياً من الخارج، كان في الواقع وهماً.
لاهور لم يدرك أن الانفصال في السياسة العائلية ليس كالطلاق في الحياة الزوجية، ففي الحياة الزوجية، يمكن للأطراف أن تنفصل وتبني حياة مستقلة. لكن في السياسة العائلية، خاصة في مجتمع صغير ومترابط مثل المجتمع الكردي، لا يُعرّف الانفصال إلّا بوصفه تهديداً.
النفط والأرض والسلاح: صراع العشائر والسلطة في كردستان.. من ناحية بافل، رؤية لاهور يبني قاعدة قوة مستقلة كانت أكثر إثارة للقلق من وجوده داخل الحزب، حيث كان من الممكن تقويضه والسيطرة عليه أو احتواؤه أو على الأقل مراقبته عن كثب، لكنْ خارج الحزب، أصبح الأمر متغيراً ولا يمكن السيطرة عليه، أصبح عمله مستوراً يحيط به الضباب، وأصبح قوة مجهولة قد تضرب في أي لحظة.
تطور العداء
مع مرور الوقت، تطورت العلاقة بين بافل ولاهور من صراع عائلي عادي إلى عداوة سيكولوجية معقدة، كل نجاح يحققه أحدهما كان هزيمة للآخر، كل تصريح، كل موقف، كل تحالف، كان يُقرأ في إطار الصراع الثنائي.
بافل بدأ يرى في كل خطوة يقوم بها لاهور محاولة لتقويض سلطته، عندما ينجح لاهور في حزبه الجديد، يكون هذا النجاح دليلاً على فشل بافل في قيادة الاتحاد الوطني، وعندما يبني لاهور تحالفات جديدة، يُرى ذلك كتطويق لبافل ومحاولة لعزله سياسياً.
من ناحية أخرى، لاهور بدأ يشعر بأن بافل يعمل على تدمير مشروعه السياسي، فكل ضغط يتعرض له، وكل صعوبة تواجه حزبه، وكل مشكلة قانونية أو أمنية، يعدها جزءاً من مؤامرة أكبر يديرها بافل لإجباره على العودة إلى الحزب الأم بشروط مذلة.
نبوءة عرافة دلفي
هذا الشك المتبادل خلق ما يُسمى في علم النفس بـ ”النبوءة المحققة ذاتياً”، وهو توقُّع يُؤثّر في سلوك الأفراد المعنيين به، فيدفعهم لا شعورياً إلى التصرف بما يحقق ذلك التوقع. والطرفان، بافل ولاهور، من خلال تفسير كل منهما تصرفات الآخر على أنها تهديد، أخذا يتصرفان بطريقة دفاعية هجومية تؤكد الخشية الراسخة من الآخر.
بافل، وخوفاً من تنامي قوة لاهور، بدأ يستخدم أدوات الدولة لتضييق الخناق عليه، هذا التضييق، الذي كان يبرره بافل بأنه إجراء وقائي ضروري، كان بنظر لاهور دليلاً على العداوة المبيّتة ومحاولة التصفية السياسية.
أما لاهور، فقد بدأ يبني تحالفات أقوى ويُسلّح نفسه أمنياً وسياسياً للدفاع عن مشروعه، هذا التسلّح، الذي كان يبرره لاهور بأنه حماية مشروعة للنفس، فُسر من قِبل بافل بأنه استعداد للهجوم وتأكيد لصحة مخاوفه الأولية.
الحزب الجديد.. تهديد مضاعف
عندما يكون المنافس داخل الحزب نفسه، يمكن تبرير وجوده كجزء من التنوّع الداخلي أو الديمقراطية الحزبية. لكن عندما يؤسس حزباً منفصلاً، يصبح وجوده تشكيكاً مباشراً في شرعية المشروع الأصلي وقيادته، والرسالة الضمنية لتأسيس الحزب الجديد هي أن “الحزب الأصلي فاسد أو فاشل، ولهذا كان عليّ أن أؤسس بديلاً”.
هذا التهديد للشرعية لا يقتصر على الداخل، بل يمتدّ إلى الخارج، إلى الحلفاء الإقليميين والدوليين، الذين اعتادوا التعامل مع حزب واحد ممثل للعائلة، سيجدون أنفسهم أمام خيارين من العائلة نفسها، يتنافسان على التمثيل الخارجي، مما قد يؤدي إلى تآكل النفوذ الإجمالي للعائلة.
الانشقاق الذي لا ينتهي
في العقلية القيادية العائلية، المنشق الأول يفتح الباب لانشقاقات أخرى، فإذا نجح لاهور في تأسيس حزب مستقل وناجح، فهذا يرسل رسالة إلى بقية أفراد العائلة تؤكد أن الانشقاق خيار ممكن ومربح.
بافل، في مواجهة نجاح لاهور، قد يجد نفسه يواجه ضغوطاً من أفراد آخرين في العائلة أو الحزب للحصول على استقلالية أكبر أو حتى تأسيس منصات منفصلة، هذا يخلق كابوساً سيكولوجياً حيث يرى القائد إمبراطوريته تتفكك قطعة بعد قطعة.
التنافس على الإرث التاريخي الصراع لا يقتصر على السلطة الحالية، بل يمتد إلى التنافس على تفسير الإرث التاريخي للعائلة، كل طرف يحاول أن يقدم نفسه كوريث “حقيقي” لمؤسس العائلة السياسية، وأن الطرف الآخر يشوّه هذا الإرث أو يخونه.
لاهور، من خلال “حزب جبهة الشعب”، يحاول أن يقدم نفسه كامتداد “نقي” لنهج جلال طالباني، مؤكداً أن الاتحاد الوطني تحت قيادة بافل انحرف عن المسار الأصلي. بافل، من ناحيته، يحاول أن يؤكد أن الاتحاد الوطني هو التجسيد الحقيقي لإرث والده، وأن “حزب جبهة الشعب” ورم خبيث.
هذا التنافس على الإرث يجعل التعايش السلمي مستحيلاً، لأن كل طرف يرى في وجود الآخر تشويهاً لذاكرة المؤسس وتقويضاً لشرعيته التاريخية.
عصبة القادة النرجسيين
هناك نماذج عدة في المنطقة العربية، كعائلة الأسد في سوريا، ونموذج القذافي في ليبيا، تتشابه إلى حد كبير، وكذلك حزب البعث في العراق، الذي شهد صراعات مماثلة داخله، صدام حسين، الذي وصل إلى السلطة من خلال انقلاب داخلي على أقاربه في الحزب، ظلّ طوال فترة حكمه مهووساً بالخوف من انقلاب مضاد من داخل العائلة السياسية البعثية.
كلّ من حاول الانشقاق أو تأسيس منصة منافسة واجه مصيراً مأساوياً، فالخوف من “العودة المظفرة” للمنشقين دفع صدام إلى تصفيات دموية مستمرة، حتى لأفراد العائلة مثل أصهاره وأبناء عمومته.
القادة العائليون يطوّرون مع الوقت عقلية “الحصار الأبدي”، يرون أنفسهم محاطين بالأعداء من كل جانب، والمنافس العائلي هو الأخطر لأنه يعرف نقاط ضعفهم ولديه الادعاءات التاريخية للشرعية نفسها.
يعاني معظم هؤلاء القادة من درجة من درجات اضطراب الشخصية النرجسية، مضخم بالسلطة السياسية، هذا الاضطراب يجعلهم غير قادرين على تحمل وجود منافس “متساوٍ” معهم في الادعاءات التاريخية.
المنافس العائلي، بحكم تشاركه الخلفية والإرث نفسيهما، يمثل تهديداً لصورة الذات المتضخمة التي يحملها القائد عن نفسه، ووجود منافس عائلي ناجح يعني أن “التفرد” والاستثنائية” التي يدعيهما القائد قابلَين للنسخ والتكرار، مما يهدد الأساس النفسي لشرعيته.
طريق الاستقرار
في السليمانية، في بيت طالباني، وفي بيوت ومناطق أخرى من الإقليم والعراق، لا سبيل إلى الخروج من هذه الدوامات الدموية غير التحوّل نحو النظم السياسية المؤسسية، وهذا يتطلب إصلاحات داخلية جذرية من حيث وضع أنظمة داخلية واضحة لانتخاب القيادات، وفصل الملكية العائلية عن القيادة السياسية، وإنشاء آليات للمحاسبة والشفافية، وكذلك يتطلب تعزيز النظام الديمقراطي عن طريق تقوية المؤسسات الدستورية، وتعزيز دور المجتمع المدني، وسن قوانين تنظم تمويل الأحزاب، ووضع حدود على التوريث السياسي، وتعزيز آليات الرقابة القضائية.
العائلة قبل الحزب
الاشتباكات المسلحة داخل السليمانية ليست حدثاً معزولاً، بل حلقة جديدة من سلسلة صراعات داخلية في بنية الأحزاب الكردية، التي قامت في جوهرها على أسس عائلية أكثر مما قامت على قواعد حزبية أو مؤسساتية. وفق تقرير لمعهد Carnegie Middle East Center (2023)، فإن الأحزاب الكردية الكبرى مثل الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني تستمد قوتها الأساسية من العائلة المؤسسة، حيث تُمزج السلطة السياسية بالإرث العائلي ليصبح الحزب امتداداً للأسرة، لا إطاراً مؤسسياً قابلاً للتجدد.
صراع الشرعية والوراثة
في علم السياسة، تُعد الشرعية حجر الأساس لأي سلطة. وبالنسبة لعائلة طالباني، الشرعية لا تُبنى عبر الانتخابات الحزبية فقط، بل عبر "الحق العائلي" في تمثيل إرث جلال. هنا تكمن الأزمة: فكل طرف يرى نفسه الوريث الحقيقي. بافل يتكئ على كونه الابن المباشر، فيما يستند لاهور إلى خبرته الطويلة في العمل الأمني والسياسي، وإلى الدعم الشعبي الذي حظي به داخل أجنحة الاتحاد الوطني.
هذه المعادلة خلقت ما يسميه علماء النفس السياسي بـ"النزاع الصفري"، أي إن مكسب طرف يُعد خسارة مطلقة للطرف الآخر. وبحسب دراسة لـChatham House (2022)، فإن مثل هذه النزاعات في الأحزاب العائلية تنتهي غالباً إمّا بالانشقاق الكامل أو بالتصفيات العنيفة، وهو ما يفسر التحوّل الدموي الأخير.
الخوف من الخارج.. عامل مضاعف
ما يزيد من تعقيد المشهد هو البعد الإقليمي والدولي. لاهور، المعروف بعلاقاته الأمنية مع أطراف دولية وإقليمية، يمثل في ذهن بافل تهديداً مضاعفاً. فالصراع لم يعد مجرد منافسة داخلية، بل احتمال تسلل النفوذ الخارجي عبر طرف منشق. التاريخ السياسي في المنطقة يعج بأمثلة مشابهة: ففي سبعينيات القرن الماضي، استثمرت قوى إقليمية ودولية الخلافات داخل الحركة الكردية لتوسيع نفوذها، وهو ما جعل الانقسامات الداخلية تتحول إلى ساحات حرب بالوكالة.
من الخصومة السياسية إلى العداء النفسي
من الناحية السيكولوجية، تحوّل الصراع بين بافل ولاهور إلى ما يشبه "النبوءة المحققة ذاتياً". كل طرف يتصرف انطلاقاً من قناعة راسخة أن الآخر يخطط للإطاحة به. هذا النوع من التفكير يولّد سلسلة من الإجراءات الدفاعية-الهجومية، مثل اعتقال الأنصار، التضييق الإعلامي، أو اللجوء إلى السلاح، وكلها تؤكد للطرف المقابل أن مخاوفه صحيحة.
النتيجة هي حلقة مفرغة: الخوف يؤدي إلى هجوم، والهجوم يولّد خوفاً أكبر، حتى ينفجر الصراع كما حدث في فندق لالازار.
انعكاسات على استقرار الإقليم
الصراع داخل بيت طالباني لا يقتصر على البنية الداخلية للاتحاد الوطني، بل يترك أثراً مباشراً على استقرار إقليم كردستان. السليمانية، بوصفها معقلاً للاتحاد الوطني، تعيش حالة من القلق الأمني والسياسي، فيما تستغل قوى منافسة – مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني – هذه الانقسامات لتعزيز نفوذها.
وفق تقرير لـInternational Crisis Group (2024)، فإن استمرار الانقسامات العائلية في الاتحاد الوطني يهدد التوازن السياسي في الإقليم بأسره، وقد يفتح الباب أمام تدخلات إقليمية أكبر، خصوصاً من إيران وتركيا، اللتين تتابعان عن كثب مسار الأحداث في السليمانية وأربيل.
إن المعركة التي شهدها فندق لالازار ليست مجرد حادثة أمنية عابرة، بل تجسيد عميق لأزمة بنيوية في السياسة الكردية والعراقية عامة: هيمنة العائلة على الحزب، وتحويل الخلاف السياسي إلى عداء شخصي دموي. دون إصلاحات جذرية تبني مؤسسات حقيقية، سيبقى التاريخ يعيد نفسه، وستظل السليمانية وغيرها تدفع ثمن الصراع العائلي المفتوح.



