العراق يواجه مأساة ثلاثة آلاف مفقود خارج البلاد.. أُسر تنتظر والملف يزداد تعقيدا
أطفال ونساء بين المفقودين
انفوبلس..
لا تزال قضية المفقودين العراقيين خارج البلاد تمثل واحدة من أعقد الملفات الإنسانية والسياسية التي تواجه الدولة العراقية منذ عقود، إذ كشفت وزارة الخارجية مؤخراً عن وجود ما يقارب ثلاثة آلاف مواطن مفقود من مختلف المكونات، بينهم أطفال ونساء، وسط قلق عميق يعيشه ذووهم الذين ينتظرون منذ سنوات معرفة مصير أحبّتهم.
وقال وكيل وزارة الخارجية، هشام العلوي، في تصريح صحفي، إن “الأرقام التقريبية تشير إلى نحو ثلاثة آلاف مفقود من المكونات العراقية كافة، من الإيزيديين والتركمان والمسيحيين وغيرهم، بينهم نساء وفتيات وأطفال ما زال مصيرهم مجهولاً”.
وأضاف، إن “التعاون قائم مع مؤسسات عراقية قطاعية، إضافة إلى اللجنة الدولية لشؤون المفقودين، والدول التي يُعتقد بوجود هؤلاء الأشخاص فيها، بهدف تتبع مصيرهم وإعادتهم إن أمكن”.
وأشار العلوي إلى أن السنوات الماضية شهدت إعادة العشرات من المفقودين، معظمهم من النساء والأطفال، مشدداً على أن “هذا الملف يحظى باهتمام كبير لأنه يرتبط بحقوق إنسانية وأسرية لا يمكن التغاضي عنها”. كما كشف عن استعادة عدد من المطلوبين المتهمين بجرائم فساد مالي عبر اتفاقيات تسليم المطلوبين، من خلال التعاون مع الشرطة الدولية (الإنتربول).
غياب قاعدة بيانات دقيقة
ورغم الوعود والجهود الحكومية، يرى خبراء أن تعقيدات الملف ما زالت قائمة. ويقول الخبير في شؤون حقوق الإنسان، علي العبادي، إن "غياب قاعدة بيانات دقيقة وموحدة بين العراق والدول الأخرى يعقّد عملية التتبع والتحقيق بشأن المفقودين، ويجعل الجهود مبعثرة وغير فعالة".
ويضيف العبادي، إن "الكشف عن مصير المفقودين واجب إنساني وأخلاقي وقانوني في آن واحد، لأنه يضمن للعائلات حقها في معرفة الحقيقة، ويمهد الطريق نحو العدالة وجبر الضرر".
ويرى أن المطلوب هو إطلاق حملات توثيق موسعة، وتفعيل دور السفارات العراقية في الخارج، والاستفادة من تقنيات الحمض النووي وقواعد بيانات اللاجئين والمهاجرين، بما يساعد في إنهاء معاناة آلاف الأسر.
وشدد على أن "تجاهل هذا الملف يمثل خرقاً للمواثيق الدولية وحرماناً لعشرات الآلاف من أبسط حقوقهم الإنسانية، خاصة أن العراق شهد عبر حروبه المتعاقبة وصراعاته الداخلية أعداداً كبيرة من حالات الاختفاء القسري، بعضها في دول الجوار وأخرى على طرق الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا".
خلفية تاريخية ومعاناة ممتدة
ملف المفقودين العراقيين ليس وليد اليوم. فمنذ عقود طويلة، عاش آلاف المواطنين مأساة الغياب نتيجة الحروب المستمرة وسياسات النظام السابق، ثم موجات النزوح واللجوء التي رافقت الاحتلال الأميركي، وصولاً إلى الجرائم الوحشية التي ارتكبها تنظيم داعش بعد عام 2014، حيث تعرضت جماعات كاملة مثل الإيزيديين لعمليات إبادة جماعية واختفاء قسري وسبي واتجار بالبشر.
ومع مرور السنوات، لم تُحسم هذه الملفات، بل بقيت مفتوحة على احتمالات مؤلمة، إذ تتوزع القصص بين لاجئين انقطعت أخبارهم، ومهاجرين اختفوا في ظروف غامضة، ونساء وأطفال وقعوا ضحايا شبكات الاتجار بالبشر.
ورغم جهود منظمات دولية كالصليب الأحمر والأمم المتحدة، لا تزال عمليات التوثيق بطيئة، في ظل غياب إحصاءات دقيقة.
جهود وزارة العدل
بدورها، تؤكد وزارة العدل أن الملف يحظى بمتابعة رسمية. فقد أوضح الوكيل الأقدم للوزارة، زياد خليفة التميمي، خلال اجتماع إقليمي حول المفقودين، أن العراق ملتزم بمعالجة القضية بجدية، مشيراً إلى أن الوزارة واصلت العمل بعد إلغاء وزارة حقوق الإنسان، من خلال تأسيس دائرة مختصة بحقوق الإنسان وتشكيل لجنة تعنى بالاختفاء القسري برئاسة وزير العدل.
وبيّن التميمي أن العراق كان من أوائل الدول الموقعة على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري عام 2009، لافتاً إلى أن اللجنة الدولية المعنية بالاختفاء القسري زارت البلاد عام 2022 وعقدت لقاءات موسعة مع مؤسسات حكومية وذوي الضحايا.
كما أعلن عن إعادة تشكيل اللجنة الوطنية للمفقودين برئاسة وزير العدل وعضوية 18 جهة حكومية وأمنية، بتوجيه من رئيس الوزراء.
وكشف عن العمل على إنشاء سجل وطني موحد للمفقودين، يتضمن قاعدة بيانات إلكترونية وصفحة خاصة لكل حالة، تشمل تفاصيل القرارات القضائية والأمنية المرتبطة بها، مع تدريب كوادر مختصة لهذا الغرض.
التحديات القائمة
ورغم كل هذه الجهود، تبقى التحديات كبيرة. فغياب التنسيق الكافي بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات الدولية، وضعف الإرادة السياسية أحياناً، يعرقلان الوصول إلى نتائج ملموسة. كما أن الملف يتقاطع مع قضايا معقدة أخرى مثل النزاعات المسلحة، الاتجار بالبشر، الهجرة غير الشرعية، وانتهاكات التنظيمات الإرهابية.
ويرى مراقبون أن معالجة هذا الملف تتطلب إرادة سياسية قوية، ودعماً دولياً أكبر، وإشراكاً حقيقياً للمجتمع المدني والمنظمات الحقوقية. فالكشف عن مصير المفقودين ليس مجرد خطوة إنسانية، بل هو شرط أساسي لتحقيق العدالة الانتقالية وبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
ويبقى ملف المفقودين العراقيين في الخارج جرحاً مفتوحاً في جسد الدولة والمجتمع، يذكّر بسنوات الحروب والاضطرابات والجرائم التي عصفت بالبلاد. ورغم الجهود المبذولة، فإن آلاف الأسر لا تزال تعيش على أمل ضعيف بالعثور على أبنائها أو على الأقل معرفة مصيرهم. وبين الوعود الحكومية والتعقيدات الواقعية، يبدو الطريق نحو إغلاق هذا الملف طويلاً، ما لم تتوافر آليات حقيقية للتعاون الدولي، وإرادة سياسية حازمة تعطي الأولوية للإنسان وحقه في الحياة والحرية.