النفط مقابل الماء.. صفقة تفتح الأبواب لنهبٍ جديدٍ من نوع آخر: تركيا تروي عطشها من نفط العراق وبغداد تدفع ثمن المياه بسيادتها وثروتها
انفوبلس/..
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً داخل الأوساط السياسية والشعبية، رعى رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، يوم الأحد 2 تشرين الثاني 2025، مراسم التوقيع على الآلية التنفيذية الخاصة باتفاقية التعاون الإطارية مع تركيا في مجال المياه، بحضور وزيري خارجية البلدين فؤاد حسين وهاكان فيدان. وبينما قدّمت الحكومة العراقية الاتفاق على أنه “إنجازٌ استراتيجي” لمعالجة أزمة شحّ الموارد المائية، يرى مراقبون وخبراء أن ما تم توقيعه ليس سوى صفقة مبطّنة عنوانها “النفط مقابل الماء”، تُرسّخ التبعية الاقتصادية لتركيا وتفرّط بحقوق العراق المائية التاريخية.
من أزمة مياه إلى مقايضة نفطية
منذ سنوات، يعيش العراق أزمة مياه خانقة بسبب سياسات السدود التركية المتواصلة على نهري دجلة والفرات، وانخفاض نسب الإطلاقات المائية القادمة من المنابع. بدل أن تتخذ بغداد موقفاً حازماً وتفاوض من موقع المتضرر، اتجهت نحو خيارٍ يوصف بـ”المُذلّ”، يتمثل في تقديم النفط الخام مقابل الحصول على حصة مياهٍ لا تصل حتى إلى الحدّ الأدنى من حاجة البلاد.
الاتفاقية التي وُقعت بعد مفاوضات استمرت أكثر من عام، تتيح لأنقرة تنفيذ مشاريع “مائية” داخل العراق بتمويلٍ من حسابٍ خاص يُنشأ من بيع كميات النفط العراقي للشركات التركية، وفقاً لما تحدده الحكومة العراقية من كميات وأسعار. وبحسب نص الاتفاق، فإن أي أرباح ناتجة عن إعادة بيع النفط في السوق الأوروبية تُقسم بنسبة 65% للعراق و35% لتركيا، وهو بندٌ يثير علامات استفهام حول طبيعة السوق التي يُعاد فيها بيع النفط العراقي، والجهة المستفيدة فعلياً من فروقات الأسعار.
خديعة “التنمية المشتركة”
البيان الرسمي لمكتب رئيس الوزراء وصف الاتفاق بأنه “أحد الحلول المستدامة لأزمة المياه في العراق، من خلال مشاريع كبيرة مشتركة في قطاع المياه”. لكنّ محللين يرون أن هذا الطرح يُخفي جوهر المشكلة ولا يعالج جذورها. فالمياه التي تصل العراق أصلاً تخضع لسيطرة أنقرة التي تحتجزها خلف سدود ضخمة منذ أكثر من عقدين، وتتحكم بإطلاقاتها وفقاً لمواسمها الزراعية ومصالحها السياسية.
الاتفاق الحالي، بدلاً من أن يُلزم تركيا بإطلاق الحصص المائية وفق اتفاقيات دولية سابقة، يحوّل الأزمة إلى تجارة مربحة: تركيا تتحصل على النفط العراقي بأسعارٍ تفضيلية، وتعيد بيع جزءٍ منه لتحقيق أرباح إضافية، بينما يُمنح العراق وعوداً فضفاضة بمشاريع تحسين نوعية المياه واستصلاح الأراضي وترشيد الاستخدام، دون أي التزام تركي صريح بزيادة الإطلاقات أو وقف بناء السدود الجديدة.
مشاريع ظاهرها التنمية وباطنها السيطرة
الآلية التنفيذية التي تم توقيعها تضمّ أربعة محاور أساسية:
1. تحسين نوعية المياه وإيقاف تلويث الأنهار.
2. تطوير أساليب الري الحديثة.
3. استصلاح الأراضي الزراعية.
4. حوكمة إدارة المياه وترشيد الاستخدام.
على الورق تبدو البنود تنموية، لكنّ جوهرها العملي يمنح تركيا حق الدخول المباشر إلى مفاصل إدارة المياه العراقية. فالاتفاق ينصّ على تشكيل فريق استشاري من البلدين لتحديد المشاريع المطلوبة وأولوياتها، أي أن الجانب التركي سيكون شريكاً في تحديد أين تُصرف أموال العراق وكيف تُدار موارده.
كما تمنح الآلية الشركات التركية أولوية في تنفيذ هذه المشاريع، في منافسة شكلية تشارك فيها شركات عراقية “مؤهلة”، ما يعني عملياً احتكار تركيا للسوق المائي العراقي تحت غطاء التعاون الفني. والأسوأ من ذلك، أن تمويل هذه المشاريع سيتم من أموال النفط العراقي، وليس من موازنةٍ استثمارية مستقلة أو منحٍ دولية.
بيع السيادة بالتقسيط
الاعتراضات على الاتفاق تتعدى الجانب الاقتصادي إلى البعد السيادي. إذ يرى خبراء القانون والاقتصاد أن ربط الموارد المائية بالنفط يمثل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، لأنه يُدخل الثروتين الحيويتين في معادلة مقايضة غير متكافئة.
النفط موردٌ قابل للنضوب، بينما المياه حاجةٌ دائمة؛ ومنح تركيا هذا الدور يجعلها ممسكة بورقة مزدوجة: تتحكم بالمنابع، وتتحصل في الوقت ذاته على عائداتٍ نفطية لتمويل مشاريع تُنفذ بأيدي شركاتها داخل العراق.
بهذه الصيغة، يصبح العراق هو الممول والمنفذ والمستفيد الظاهري، بينما تركيا هي المستفيد الحقيقي، إذ تضمن تدفق النفط إلى شركاتها وتكسب نفوذاً سياسياً متزايداً داخل القرار العراقي، تحت ذريعة “التعاون الثنائي”.
من اتفاق 2014 إلى صفقة 2025
الاتفاق الجديد يُعيد إلى الأذهان اتفاقية التفاهم المائية لعام 2014 بين وزارة الموارد المائية العراقية ووزارة الغابات التركية، والتي دخلت حيز التنفيذ في 2021 لكنها فشلت في تطبيق أغلب بنودها. السبب حينها كان تعنت الجانب التركي واستمرار سياساته في بناء السدود واحتجاز المياه.
اليوم، تُقدَّم الاتفاقية الجديدة وكأنها تصحيح لتلك التجربة الفاشلة، لكنها في الواقع تكرّر الأخطاء نفسها بشكلٍ أعمق. بدلاً من أن تُطالِب بغداد بحقوقها القانونية في المياه وفق القوانين والأعراف الدولية، اختارت الطريق الأسهل: السكوت مقابل بعض الوعود، ودفع المقابل من النفط.
النفط يروي عطش تركيا
في العمق، هذا الاتفاق لا يُعالج أزمة المياه في العراق بقدر ما يُخفف الضغوط عن أنقرة. فبدلاً من أن تواجه تركيا انتقاداتٍ دولية بشأن تقليصها حصة العراق المائية، ستحصل الآن على غطاءٍ رسمي يبرر احتجازها للمياه، بحجة أنها تعوّض العراق بمشاريع تطويرية مموّلة من نفطه.
بهذه الطريقة، ينقلب المشهد بالكامل: بدل أن يكون العراق هو الطرف المتضرر الذي يطالب بحقوقه، يصبح هو الطرف الذي يدفع لتعويض ضرره! والنتيجة أن تركيا تخرج من المأزق كدولة “مانحة للمشاريع”، بينما العراق يدفع من جيبه ليحصل على ما كان يجب أن يكون حقاً طبيعياً ومجانياً.
خطر استراتيجي على المدى البعيد
من الناحية الاستراتيجية، ربط الموارد المائية بالنفط يعني أن كل انخفاض في أسعار النفط سينعكس فوراً على مستوى المشاريع المائية. فإذا هبطت الأسعار أو تأخرت العائدات، ستتوقف المشاريع، ما يعرّض العراق لابتزازٍ مزدوج: مائي واقتصادي.
أما من الناحية السياسية، فأنقرة ستستخدم هذا الاتفاق كورقة ضغطٍ دائمة. ففي كل خلافٍ سياسي أو أمني، يمكنها التلويح بعرقلة المشاريع أو تأخير تنفيذها، ما يجعل العراق في موقع التابع لا الشريك.
