بين أُفول الحلبوسي والخنجر وصعود قوى جديدة.. المشهد السنّي يدخل معركة الانتخابات بولاءات متقلبة وتحالفات مصلحية
انفوبلس/..
مع اقتراب الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق، يبدو أن الساحة السياسية السنية مقبلة على تحولات عميقة قد تعيد رسم خارطة النفوذ داخل هذا المكوّن. فبعد سنوات من هيمنة أسماء بعينها على القرار السني، تتجه البوصلة نحو مرحلة جديدة، عنوانها الأبرز تراجع نفوذ الزعامات التقليدية مثل محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، وصعود قوى ناشئة تحاول استثمار لحظة الارتباك والتشظي لصالحها.
هذا التحول لا ينفصل عن مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي ساهمت في إضعاف الزعامات القديمة، وأبرزها الملفات القضائية، وتراجع الثقة الشعبية، وتغيّر موازين القوى الإقليمية التي طالما لعبت دور الراعي المباشر أو غير المباشر للكتل السنية. وفي الوقت ذاته،
يتغذى المشهد السني على صراع المال السياسي، الذي أصبح بوابة رئيسية للتمثيل والفوز بالمقاعد في ظل غياب أدوات تنظيمية راسخة شبيهة بما هو قائم في البيت الشيعي.
الزعامات التقليدية في مواجهة العزلة
محمد الحلبوسي، الذي صعد بسرعة قياسية إلى رئاسة البرلمان قبل أن يفقدها في ظروف صاخبة، يواجه اليوم أزمة ثقة داخلية وخارجية. ورغم نجاحه في حصد نتائج مهمة في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة، إلا أن صورته العامة لم تعد كما كانت، بعد موجة الانتقادات الشعبية والقضائية التي طاردته. أما خميس الخنجر، الذي لطالما قدّم نفسه كراعٍ لمشروع سياسي واسع، فقد تراجعت أسهمه هو الآخر بعد سلسلة دعاوى قضائية وتصريحات نارية زادت من عزلته.
ورغم الخلافات المريرة التي فرّقت الرجلين في السنوات الأخيرة، ظهر كلاهما مجدداً في لقاء علني ببغداد قبل أسابيع، في محاولة لإعادة ترتيب الأوراق. اللقاء بدا أشبه بصفقة مصالح مؤقتة هدفها تبادل الدعم الانتخابي وتوزيع المقاعد، أكثر مما يعكس توجهاً نحو تحالف متماسك أو مشروع استراتيجي طويل الأمد.
القوى الناشئة تطرق الأبواب
في المقابل، تبرز على الساحة قوى جديدة تحاول اقتناص الفرصة لفرض حضورها. تحالف “عزم” بزعامة مثنى السامرائي، وتحالف “المبادرة” بقيادة زياد الجنابي، يقدمان نفسيهما كبديل واقعي عن الطبقة التقليدية. هذه التحالفات تستثمر في حالة السخط الشعبي على القيادات القديمة، وتروّج لخطاب يتبنى هموم المحافظات السنية التي أنهكتها الحروب والإهمال.
لكن، وبرغم الحضور الإعلامي المتزايد لهذه القوى، تبقى فرصها محدودة بالحصول على أغلبية مريحة داخل المكوّن السني. فطبيعة البنية السياسية تجعل أي قوة مضطرة في نهاية المطاف إلى الدخول في صفقات وتفاهمات ما بعد الانتخابات، ضمن عملية تقاسم المناصب المخصصة للمكون السني، تماماً كما جرى في دورات سابقة.
المال السياسي… الحاضر الأقوى
المال السياسي أصبح اليوم المحرك الرئيسي للمشهد الانتخابي السني. الباحث كاظم ياور يؤكد أن غياب التنظيمات القاعدية في المحافظات السنية بعد موجات العنف والنزوح، جعل من القدرة المالية معياراً أساسياً للتنافس. ويضيف أن من يملك المال هو الأقدر على شراء الولاءات، وتمويل الحملات، وضمان الأصوات. فاليوم يجد السنّة أنفسهم مرتهنين لشبكة مصالح مالية، تجعل المال السياسي يتقدم على أي برنامج أو رؤية.
التدخلات الإقليمية… خارطة جديدة
على مدى السنوات الماضية، كانت تركيا لاعباً محورياً في الساحة السنية، بينما حظي بعض القادة بدعم إماراتي أو قطري. اليوم، تتبدل الخارطة. تركيا فقدت الكثير من نفوذها لصالح قوى أخرى، إذ يبدو تأثيرها محصوراً أكثر بخميس الخنجر وتحالف السيادة. في المقابل، تميل الإمارات نحو دعم محمد الحلبوسي وحزبه “تقدم”، بينما تعزز قطر حضورها من خلال تحالف “المبادرة” بزعامة زياد الجنابي، على حساب المشروع الوطني بقيادة جمال الضاري الذي تراجع دوره.
هذا التوزع يعبّر عن غياب الراعي الإقليمي الموحد الذي كان يتحكم سابقاً بالبيت السني. ما يفتح المجال أمام تنافس محموم بين عواصم عدة، ويجعل المشهد أكثر هشاشة، إذ لا يوجد مرجعية واضحة تضبط إيقاع التحالفات أو تفرض وحدة قرار.
تحالفات مصلحية لا أكثر
اللقاء الأخير بين الحلبوسي والخنجر مثّل نموذجاً واضحاً للتحالفات المؤقتة. فهو جاء في توقيت حساس، قبل الانتخابات مباشرة، بهدف خلق صورة إعلامية عن تماسك الصف السني. لكن معظم المراقبين يجمعون على أنه تحالف مصلحي بحت، هدفه احتواء صعود القوى الجديدة، وضمان حصة أكبر من المقاعد.
القيادي في تحالف الأنبار المتحد، طارق الدليمي، وصف هذا اللقاء بأنه “مجرد محاولة لضرب القوى السنية الصاعدة”، مؤكداً أن الطرفين لا يجمعهما مشروع وطني، بل مجرد تفاهم مؤقت سرعان ما يتبدد بعد الانتخابات.
غياب الإطار الجامع
أحد أبرز نقاط الضعف في المشهد السني يتمثل في غياب إطار سياسي موحد على غرار “الإطار التنسيقي” لدى الشيعة.
فالقوى السنية تتوزع بين ولاءات متعددة، وتتنافس على المكاسب الفردية أكثر مما تتبنى مشروعاً يعكس إرادة جمهورها. هذا التشرذم قد يضعف من موقعها التفاوضي بعد الانتخابات، خصوصاً إذا ما نجح المكونان الشيعي والكردي في الدخول بمواقف أكثر تماسكاً.
انتخابات معقّدة وانتظارات ثقيلة
الانتخابات المقبلة توصف بأنها واحدة من أعقد الدورات في تاريخ العراق الحديث. فالمشهد السياسي مشبع بالصراعات الداخلية، والتأثيرات الإقليمية، وتضخم دور المال، إلى جانب عزوف شريحة واسعة من المستقلين عن خوض غمار التنافس في بيئة انتخابية غير متكافئة.
الزعامات التقليدية تحاول النجاة من العزلة عبر تحالفات متقلبة، والقوى الناشئة تبحث عن مكانها تحت شمس مزدحمة باللاعبين، فيما يبقى الناخب السني عالقاً بين خيبات الماضي وأحلام التغيير.
المشهد السني مقبل على إعادة تشكل جذرية، لكن ليس بالضرورة أن تفضي هذه التحولات إلى ولادة قيادة موحدة أو مشروع سياسي متماسك. فالمال السياسي يظل الحاكم الأكبر، والتحالفات تبقى مرتهنة للمصالح الوقتية، بينما التأثيرات الإقليمية تستمر في إعادة توزيع الأدوار وفق حساباتها.
وبينما يتراجع نفوذ الحلبوسي والخنجر، لا يبدو أن البدائل الجديدة تملك وصفة سحرية لإخراج المكون السني من مأزقه. بل قد تعيد إنتاج الدائرة ذاتها، حيث يجتمع الجميع بعد الانتخابات تحت مظلة واحدة لتقاسم المناصب، دون أن يلمس الشارع تغييراً حقيقياً في حياته اليومية.
