مؤتمر حل الدولتين.. دولة فلسطينية بلا سلاح مقابل لا شيء من "إسرائيل".. فشل أوسلو يُعاد تدويره في نيويورك
انفوبلس..
وسط رفض أمريكي "مصطنع" ومقاطعة صهيونية، انطلقت في نيويورك فعاليات المؤتمر الدولي حول حل الدولتين، بترؤس فرنسي–سعودي، وسط آمال غربية واسعة، وتشكيك شعبي وشبه رسمي بجدواه. وبينما تُطرح شروط أوروبية على الفلسطينيين، تغيب أي التزامات فعلية على الكيان الصهيوني، ما يثير تساؤلات حول مدى جدية المجتمع الدولي في فرض سلام عادل ومنصف.
وبدأت أمس الاثنين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك فعاليات المؤتمر الدولي بشأن حل الدولتين الذي تترأسه فرنسا والسعودية وتستمر رسمياً ليومين. ويُعقد المؤتمر على مستوى وزراء الخارجية، على أن يُعقد القسم الثاني منه على مستوى قادة الدول أثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة رفيعة المستوى في نيويورك، خلال الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر/أيلول المقبل، أو في باريس، بحسب دبلوماسي فرنسي تحدث للصحافيين في نيويورك قبل أيام.
هل هذا أوسلو جديد؟
تعقد السلطة الفلسطينية الكثير من الآمال على مؤتمر حل الدولتين وتبعاته، وفق ما قاله مندوب فلسطين للأمم المتحدة في نيويورك، رياض منصور، السبت، بما فيها أن تتخذ الدول، وخصوصاً الفاعلة منها، خطوات جذرية تؤدي إلى إنهاء الاحتلال من بينها الاعتراف بالدولة الفلسطينية والضغط على إسرائيل عسكرياً وتجارياً. لكن هناك أصوات كثيرة مختصة تشكك بجدية المؤتمر إن لم تتبعه خطوات واضحة وجدية تلتزم فيها الدول.
أما السفير الباكستاني، رئيس مجلس الأمن للشهر الحالي، عاصم افتخار أحمد فقد عبّر عن تفاؤله الحذر بشأن المؤتمر ووصفه بأنه "سيكون فرصة مهمة في هذه المرحلة".
وأضاف أنه "سيخدم هدف تحقيق ما لم يتمكن مجلس الأمن من تحقيقه، أي تحقيق التزامات في مجال صون السلم والأمن الدوليين، وتوفير أفق سياسي لمستقبل فلسطين وحل الدولتين والسلام والاستقرار على المدى الطويل في الشرق الأوسط". هناك الكثير من التوقعات.
وبحسب أحمد، فمؤتمر حل الدولتين يطرح جدول أعمال شاملاً، ويُوصف بأنه ليس مجرد مؤتمر عادي، بل هو أكثر من ذلك، وأكثر واقعية من حيث نتائجه (المتوقعة). يشمل ذلك "توقعات بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ووضع خطوات ملموسة نحو (تحقيق) حل الدولتين ودعم الدولة الفلسطينية عن طريق المساعدات الإنسانية، وإعادة الإعمار والمساعدة الاقتصادية وبناء المؤسسات".
هذا التفاؤل تحاول فرنسا بدورها تسويقه، إذ استبق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المؤتمر بأيام، بعد أشهر من المد والجزر، بالإعلان الخميس الماضي عن نيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة رفيعة المستوى في نيويورك، سبتمبر المقبل.
وبما يشبه الشروط لإقامة دولة فلسطينية أضاف في رسالة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أن "علينا في نهاية المطاف بناء دولة فلسطين، وضمان قابليتها للبقاء والسماح لها، بموافقتها على أن تكون منزوعة السلاح واعترافها الكامل بإسرائيل، بأن تساهم في أمن الجميع بالأوسط".
لكن الجانب الفرنسي وضع سياقاً للمؤتمر وتصورات فرنسية يبدو أنها لا تتضمن الكثير من الجديد في المواقف الغربية السائدة منذ أوسلو (1993)، بل تهدف إلى العودة لسياقه على الرغم من فشله. ولم يكن جديداً ضرب المطرقة على رأس الجانب الفلسطيني ليقدم المزيد من التنازلات في زمن الإبادة أمام الفتات.
وبرز السبت، تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، بأن دولاً عربية ستندد بحركة حماس، وستدعو إلى نزع سلاحها خلال الاجتماع الوزاري بالأمم المتحدة، في خطوة تهدف إلى حث المزيد من الدول الأوروبية على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ففي مقابلة مع صحيفة "لو جورنال دو ديمانش" الأسبوعية الفرنسية، قال بارو إن هذه الخطوة تأتي في إطار مبادرة مُخطط لها منذ فترة طويلة بين فرنسا والسعودية، مضيفاً أنه "لأول مرة، ستندد دول عربية بحماس وستدعو إلى نزع سلاحها، مما سيُعزز عزلتها النهائية".
وأشار إلى أن "دولاً أوروبية بدورها ستؤكد عزمها على الاعتراف بدولة فلسطين"، لافتاً إلى أن "نصف الدول الأوروبية أقدمت على هذه الخطوة، بينما تدرس جميع الدول الأخرى ذلك". أما الجانب الإسرائيلي والأميركي فيرفض المشاركة في المؤتمر اليوم، على الرغم من أنه مؤتمر أممي، أي أنه يعقد بموجب قرار تبنته الجمعية للأمم المتحدة في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 2024 تحت عنوان "تسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية".
وخلال الأسبوع الماضي، توالت تصريحات مسؤولين أوروبيين حول احتمالية الاعتراف بدولة فلسطينية، وسط ضغوط داخلية واضحة.
وقد اعتبرت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجا ميلوني، في تصريح لصحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية، السبت، أنها تؤيد بشدة قيام دولة فلسطين "لكنني لا أؤيد الاعتراف بها قبل إقامتها"، مضيفة أنه "إذا تم الاعتراف على الورق بشيء غير موجود، فقد تبدو المشكلة وكأنها حُلّت وهي لم تُحل".
وكان وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، أكد في بيان الجمعة الماضي، أن الاعتراف بدولة فلسطينية يجب أن يقترن باعتراف هذه الدولة بإسرائيل.
وبينما تعهد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الأسبوع الماضي، بالاعتراف بدولة فلسطينية، لكن على أن يكون ذلك جزءاً من عملية السلام في الشرق الأوسط، هدد حزب معارض صغير في البرلمان البريطاني، الأحد، بطرح مشروع قانون للاعتراف بدولة فلسطينية و"فرض التصويت" عليه في حال استمر ستارمر برفض هذه الخطوة.
وأعلن ستيفن فلين، رئيس كتلة الحزب الوطني الاسكتلندي في البرلمان (الذي يدعو لاستقلال اسكتلندا، ويشغل تسعة مقاعد من أصل 650 مقعداً) أن الحزب "سيتقدم بمشروع قانون للاعتراف بفلسطين عند عودة البرلمان سبتمبر المقبل (انتهاء العطلة الصيفية للبرلمان)، وسيفرض التصويت عليه إذا لزم الأمر".
وأضاف أنه "يجب على كير ستارمر أن يتوقف عن الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه، وأن يجد الشجاعة لمطالبة إسرائيل بإنهاء حربها الآن (على غزة)". ويأتي تهديد الحزب الوطني الاسكتلندي بعد أن طالب أكثر من 220 نائباً بريطانياً، بينهم العشرات من حزب العمال الحاكم الذي يتزعمه ستارمر، الجمعة الماضي، بأن تحذو الحكومة حذو فرنسا وتعترف بدولة فلسطينية.
"السلال" أو الشروط الفرنسية
بعيداً عن التصريحات، لعل ما يهدف إليه المؤتمر وما يأتي بعده، على الأقل من وجهة نظر دول غربية وعلى رأسها فرنسا، كان واضحاً في إحاطة صحافية مطولة عقدها دبلوماسي فرنسي رفيع المستوى، فضل عدم الكشف عن اسمه.
فقد أشار الدبلوماسي للصحافيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة في نيويورك، قبل يومين، بداية إلى السياق الزمني الذي يعقد فيه المؤتمر والظروف على الأرض، حيث تشهد الضفة الغربية المحتلة تصعيداً كما الحرب في غزة.
ووصف المؤتمر بأنه خطوة أولى، وليس هدفاً بحد ذاته، للحفاظ على "حل الدولتين وإعادة خلق ديناميكية دبلوماسية تُسهم في إعادة إطلاق آفاق هذا الحل".
ولفت الانتباه إلى المفاوضات الجارية لوقف إطلاق النار في غزة، معبراً عن تفاؤله الحذر في "التوصل إلى وقف إطلاق نار مؤقت بحلول الأسبوع المقبل، وأن يُفضي هذا الوقف المؤقت لإطلاق نار دائم".
لذلك وفق الدبلوماسي الفرنسي "ستأخذ مسألة اليوم التالي في غزة، وإعادة إعمارها، والحوكمة والأمن في غزة، ونزع سلاح حماس، حيزاً هاماً من المؤتمر". وشدد في الوقت ذاته على أن النقاش يجب أن يذهب إلى ما هو أبعد لإعادة إطلاق ديناميكية حل الدولتين.
بعد مؤتمر حل الدولتين
الديناميكية التي تحدث عنها الدبلوماسي الفرنسي تشمل أربع سلال. السلة الأولى، هي الاعتراف بالدولة الفلسطينية من الدول التي لم تعترف بها بعد، وهو ما أعلنه الرئيس الفرنسي.
وعزا السبب وراء هذه الخطوة إلى "أننا نكرس بذلك التزام المجتمع الدولي بحل الدولتين في الوقت الذي يشكك فيه العديد من قادة اليمين الإسرائيلي المتطرف علناً في هذا الحل". وتابع: "كما سيعزز ذلك موقف الأطراف الفلسطينية الممثلة في السلطة الفلسطينية، التي اختارت لعقود السلام واللاعنف والاعتراف بإسرائيل والتفاوض لإقامة دولة، في مواجهة الأطراف التي اختارت العنف والإرهاب، مثل حماس".
أما السلة الثانية فهي تطبيع دول عربية ومسلمة مع إسرائيل ودمجها الإقليمي. وأوضح الدبلوماسي الفرنسي أنه "لا أقول إننا سنشهد تطبيعاً للدول مع إسرائيل في أسبوع المؤتمر، فهذا لن يحدث، لكننا نعمل على أن تؤكد الدول العربية والإسلامية ليس فقط رغبتها بالتطبيع في حال قيام دولة فلسطينية أو في حال كان هناك مسار نحوها، بل أيضاً أن توضح إلى أي مدى يمكن أن يذهب هذا التطبيع والتكامل الإقليمي، سواء من الناحية الاقتصادية أو من حيث بناء هيكلية أمنية إقليمية".
وحول السلة الثالثة فهي تتمحور حول "إصلاح الحكم الفلسطيني"، إذ اعتبره الدبلوماسي الفرنسي "ضرورياً لتعزيز مصداقية احتمال قيام الدولة الفلسطينية"، مضيفاً أن "في هذا الملف، رأيتم أن الرئيس عباس كتب (منتصف يونيو الماضي) رسالة إلى رئيسي المؤتمر (السعودية وفرنسا)، وإلى الرئيس الفرنسي، تتضمن عدداً من الالتزامات غير المسبوقة".
ولفت الانتباه إلى ما جاء في رسالة عباس قائلاً "لأول مرة، وبكل وضوح دان (عباس) المجزرة التي وقعت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023). ودعا إلى إطلاق سراح جميع الأسرى (المحتجزين الإسرائيليين) فوراً ودون قيد أو شرط. كما دعا إلى نزع سلاح حماس. وأعرب عن استعداده لإنهاء نظام مكافآت الدفع (مستحقات عائلات الشهداء والأسرى الفلسطينيين) الذي يُكافئ الإرهاب، إلى حد ما، واستعداده لإصلاح محتوى الكتب المدرسية التي تستخدمها السلطات الفلسطينية، وهو مطلب إسرائيلي قائم منذ زمن".
وتابع الدبلوماسي الفرنسي أن عباس أوضح كذلك أن "دولة فلسطين ستكون منزوعة السلاح، وهو أيضاً مطلب إسرائيلي رئيسي وذكره (رئيس حكومة الاحتلال بنيامين) نتنياهو في خطاب ماريلاند قبل 15 عاماً (حول عملية السلام مع الفلسطينيين).
وتحدث الدبلوماسي الفرنسي عن وعود عباس بأن تجرى "خلال عام واحد، انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية تهدف إلى تجديد القيادة الفلسطينية، وأنها ستكون مفتوحة أمام كل الأطراف التي تلتزم بمبدأ أوسلو"، معتبراً أن "هذا يعني أن حماس لا يمكن أن تكون جزءاً منها، نظراً لموقفها الحالي". أما السلة الرابعة "التي نعمل عليها هي نزع سلاح حماس وإبعادها عن الحكام الفلسطيني. هذا أمر بالغ الأهمية، وهو أساسي لأي احتمالات لحل الدولتين، بما يضمن أمن إسرائيل بضمان إبعاد حماس عن أي دور في مستقبل هذا الحل".
اللافت في التصريحات الفرنسية غياب الحديث عن أي خطوات من إسرائيل، وهي الدولة القائمة بالاحتلال، لتنفيذ "حل الدولتين".
ومن غير الواضح كيف تتسق هذه الأطر الفرنسية مع ورش العمل أو الطاولات المستديرة الثماني (اجتماعات غير رسمية تستخدمها الأمم المتحدة أداةً لحل النزاعات والقضايا الدولية) التي يتم التحضير لها في نيويورك. كما من المتوقع أن يتبنى المؤتمر ورقة أو بياناً ختامياً لم تتضح معالمه بعد ولكن من المستبعد أن يذهب إلى تحديد خطوات فعلية تدعو للضغط عن طريق المقاطعة التجارية مثلاً أو وقف تسليحها.
وعلى ما يبدو فإن الفهم الفرنسي، وقد يكون الغربي عموماً، لهذا المؤتمر، يتمثل بترسيخ نسخة جديدة من أوسلو وكأن ثلاثين عاماً بعد توقيعه وفشله لم تكن كافية.
حاول السفير الفلسطيني للأمم المتحدة، رياض منصور، التخفيف من وطأة المطالب الفرنسية فوضعها في سياق أنها مما يمكن التفاوض عليه. لكن إذا نظرنا إلى موقف السلطة الفلسطينية عموماً فهو لا يبدو متسقاً مع الموقف الشعبي الفلسطيني الذي يقف وراء مقاومته على الرغم مما عاناه ويعاني.
في ورقة نشرتها، الأسبوع الماضي، حول المؤتمر اليوم، ناشدت منظمة "هيومان رايتس واتش" الدول الأعضاء في الأمم المتحدة "إلى الالتزام علناً باتخاذ إجراءات ملموسة (ضد إسرائيل)، بما في ذلك تدابير مُحدّدة زمنياً، كعقوبات مُحدّدة الأهداف، وحظر توريد الأسلحة، وتعليق اتفاقيات التجارة التفضيلية، والالتزام الواضح بدعم إنفاذ جميع أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، والتي تهدف إلى إنهاء إفلات السلطات الإسرائيلية من العقاب".
كما دعت الدول الأعضاء إلى "اعتماد قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة خلال المؤتمر يُحدّد هذه الالتزامات، ومتابعة ذلك بتقرير دوري حول مدى امتثالها".
وكما يقول العرب "ستبدي لك الأيام ما كنت تجهل"، فستتضح النوايا خلال الأسابيع والأشهر المقبلة لكن كيف يمكن تصديق ادعاء دول لم تتمكن من الضغط على إسرائيل لإدخال مياه نظيفة وطعام لغزة التي تباد؟ كيف يمكن تصديق ادعاءاتها بأنها تريد اتخاذ خطوات فعلية لفرض حل الدولتين؟ سيظهر من خلال الوثيقة الختامية التي من المتوقع أن يعتمدها المؤتمر والتي من المفترض أن تكون عملية المنحى وتحمل عنوان "تسوية القضية الفلسطينية بالوسائل السلمية وتنفيذ حل الدولتين"، مدى جدية تلك الدول ورغبتها بالتعجيل "ورسم مسار لا رجعة فيه باتجاه التسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين" كما ينص عليه قرار الجمعية العامة آنف الذكر حول المؤتمر.
إعادة تدوير الفشل
منذ إعلان مؤتمر نيويورك بشأن حل الدولتين، بدا واضحاً أن ثمة سيناريو مكرر يُكتب، ولكن بأدوات أكثر نعومة وألفاظ أكثر زخرفة. فالمؤتمر الذي جاء بغطاء دولي وحضور وزاري واسع وترويج فرنسي وسعودي مشترك، يُعيد إلى الأذهان مشهد "أوسلو" قبل أكثر من ثلاثة عقود، لكن بطابع أكثر تبجحاً في فرض الشروط على الضحية، وغض الطرف عن الجلاد.
السلطة تراهن... والشعب يقاوم
السلطة الفلسطينية، كعادتها، علّقت آمالها على المؤتمر وتوابع الإعلان الفرنسي المحتمل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن هذه الآمال لا تجد صدى في الشارع الفلسطيني، ولا في أوساط الحركة الوطنية أو قوى المقاومة. فالمطالب الغربية، التي تسوّق على أنها "بوابة للدولة"، مشروطة بتنازلات تمس جوهر الحق الفلسطيني: نزع السلاح، شطب حركات المقاومة، إنهاء ما يسمّى “مكافآت الأسرى والشهداء”، وتعديل المناهج، في مقابل لا شيء يُطلب من إسرائيل، سوى أن تبقى... كما هي.
فرنسا: اعتراف مشروط و"نزع المقاومة"
الرئيس الفرنسي ماكرون لم يخرج عن النسق الغربي التقليدي. صحيح أنه لوّح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماعات الجمعية العامة، لكنه ربط ذلك بـ"قبول دولة منزوعة السلاح" و"اعتراف كامل بإسرائيل"، و"مساهمة الدولة الفلسطينية في أمن المنطقة". بكلمات أخرى: دولة فلسطينية بلا جيش، بلا مقاومة، بلا سيادة، وبشروط الاحتلال نفسه.
وزير الخارجية الفرنسي زاد الطين بلّة حين تحدث عن تحشيد دول عربية للتنديد بحماس والدعوة إلى نزع سلاحها، وهي خطوة تحمل بصمات "تسويق الاعتراف بالدولة" عبر ضرب أحد أبرز عناوين المقاومة الفلسطينية، وتحويل النقاش من أصل الصراع ــ الاحتلال ــ إلى مشروعية المقاومة.
أوروبا: ضغوط داخلية وتوازنات ملتبسة
الخطاب الأوروبي، وإن بدا أكثر انفتاحاً من الأميركي، يبقى أسير توازنات داخلية بين دعم إسرائيل التاريخي وموجة غضب شعبية متصاعدة، خاصة بعد مجازر غزة. رئيسة الوزراء الإيطالية، ورئيس الوزراء البريطاني، وحتى أطراف اسكتلندية وبرلمانات فرعية، تحاول التوفيق بين دعم الدولة الفلسطينية والمواقف التقليدية الرافضة لفرض شروط حقيقية على الاحتلال. أما الاعتراف بدولة فلسطين، فهو لدى البعض "ورقي" لا يغير شيئاً على الأرض.
السلال الأربع: مقايضة مرفوضة
الوثيقة الفرنسية غير الرسمية التي عرضها دبلوماسي فرنسي بارز تضم أربع "سلال" تكشف عمق المقايضة:
1. اعتراف مشروط بالدولة الفلسطينية
2. تطبيع عربي واسع مع إسرائيل
3. إصلاح الحكم الفلسطيني بما يضمن استبعاد حماس
4. نزع سلاح المقاومة
لكن الغائب الأبرز عن كل هذه السلال هو: إسرائيل. لا التزامات واضحة، لا جدول زمني لإنهاء الاحتلال، لا عقوبات على الاستيطان، لا ذكر لحق العودة، ولا حتى مطالبة بوقف العدوان. فكيف لحل يُعرض على طرف واحد فقط، ويعفي المعتدي من الحساب؟
هيومن رايتس ووتش... صرخة في الفراغ؟
في ورقة قوية ومباشرة، طالبت "هيومن رايتس ووتش" الدول الأعضاء باتخاذ إجراءات ملموسة ضد إسرائيل، مثل العقوبات، حظر الأسلحة، وتعليق الاتفاقيات التجارية. كما دعت لالتزام دولي بتنفيذ أوامر المحكمة الجنائية الدولية. لكن لا مؤشرات حتى الآن على أن هذا الموقف سيتحول إلى سياسة رسمية ضمن البيان الختامي للمؤتمر، الذي يُتوقع أن يبقى ضمن اللغة الدبلوماسية الرمادية.
الوثيقة الختامية... المؤشر الحقيقي
في النهاية، فإن المعيار الأهم لقياس جدية المؤتمر سيكون في الوثيقة الختامية المتوقعة في سبتمبر، والتي ستظهر إن كان هذا المسار يرسم بالفعل طريقاً للتسوية، أم مجرد ورقة سياسية لربح الوقت وشراء الهدوء، ريثما تُستكمل معركة الإبادة في غزة، وتُفرغ القضية من مضمونها.
ما يجري اليوم ليس سوى محاولة غربية لإعادة تدوير أوسلو بوجه مختلف، لكن بروح قديمة: تحويل الضحية إلى متهم، والمقاومة إلى إرهاب، والدولة إلى كيان بلا سيادة. المؤتمر، إن لم يفرض إجراءات ملموسة على إسرائيل، ويعترف بحقوق الفلسطينيين غير المشروطة، فلن يكون إلا مساراً جديداً لتكريس الاحتلال وليس إنهاءه.


