الثورة السيبرانية الإيرانية تهز الكيان الإسرائيلي وتعيد رسم قواعد الاشتباك الرقمي
قواعد الاشتباك الجديدة
انفوبلس..
في زمن تتراجع فيه صورة التفوق الأمني للكيان الإسرائيلي، تكشف الحرب الحديثة عن ساحات جديدة للصراع لا تقل خطورة عن الميدان العسكري، وخلال حرب الأيام الاثني عشر، برزت الجمهورية الإسلامية الإيرانية لاعبًا فاعلًا في الفضاء السيبراني، محدثةً اختراقات أربكت المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وعرّت هشاشتها الداخلية.
اعترافات الإعلام العبري لم تعد مجرد تسريبات، بل مؤشرات على تحول استراتيجي عميق في طبيعة المواجهة.
الحرب السيبرانية تكسر وهم التفوق
لم تقتصر المواجهة بين إيران والكيان الإسرائيلي على الصواريخ والطائرات، بل انتقلت بقوة إلى الفضاء الرقمي، حيث بدت “إسرائيل” أقل تماسكًا مما تروّج له، وتقارير صحيفة “معاريف” العبرية أقرت ببدء حرب سيبرانية إيرانية منظمة، استهدفت الحسابات الرقمية لمسؤولين سياسيين وأمنيين.
ووصلت الهجمات إلى اختراق حساب "تلغرام" لرئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، وهذا الاعتراف الإعلامي يعكس حجم الارتباك داخل مؤسسات الاحتلال، ويؤكد أن الجبهة الرقمية باتت ساحة ضغط فعّالة.
تحدثت "معاريف" عن نجاح قراصنة في اختراق هواتف وحسابات وزراء في حكومة نتنياهو، وأعضاء كنيست، وشخصيات سياسية ومسؤولين حكوميين.
الأخطر في هذه الوقائع ليس مجرد الاختراق التقني، بل الرسالة السياسية والأمنية التي تحملها: النخبة الحاكمة نفسها لم تعد بمنأى عن الاستهداف.
ومع ترجيح تسلل القراصنة إلى تطبيقات على هواتف شخصيات إسرائيلية، يتأكد أن منظومة الحماية الرقمية للاحتلال تعاني خللًا بنيويًا.
“الشاباك” وفضيحة التجنيد
في محاولة لاحتواء الصدمة، أعلن جهاز “الشاباك” اعتقال مواطن روسي يعمل في فلسطين المحتلة، للاشتباه بتلقيه توجيهًا من جهات استخبارات إيرانية. التحقيقات، كما نقلت الصحافة العبرية، أظهرت أن التواصل بدأ منذ تشرين الأول/أكتوبر 2025، وأن المتهم نفذ مهام تصوير لبنى تحتية وموانئ مقابل أموال رقمية. ورغم سعي الاحتلال لتقديم القضية كإنجاز أمني، إلا أنها كشفت في العمق سهولة الاختراق واتساع رقعة التجنيد، حتى بين الأجانب والسياح.
وصفت “معاريف” هذه القضية بأنها رقم 34 أو 35 في سلسلة قضايا تجسس مرتبطة بإيران، مع ترجيحات بوجود ملفات أخرى لم يُكشف عنها بعد، وهذا الرقم بحد ذاته يدحض الرواية الإسرائيلية عن السيطرة الأمنية، ويشير إلى نمط متكرر من الإخفاق. فحين تتراكم القضايا بهذا الشكل، يصبح الحديث عن “حوادث فردية” مجرد محاولة للتضليل الإعلامي.
استراتيجية إيرانية متعددة الأبعاد
التقارير العبرية نفسها أقرت بأن إيران لا تعتمد أسلوبًا واحدًا، بل توظف طيفًا واسعًا من الأدوات الرقمية: اختراق حسابات، تسريب بيانات، تجنيد أفراد، وبث رسائل نفسية تهدف إلى زرع الخوف والشك داخل المجتمع الإسرائيلي.
هذه الاستراتيجية، وإن لم تكن تجسسًا تقليديًا، إلا أنها قادرة على إلحاق ضرر جسيم بالأمن القومي للاحتلال، عبر ضرب الثقة بالمؤسسات وإضعاف المعنويات العامة.
وانتقدت “معاريف” بوضوح أداء المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، مشيرة إلى تشتت المسؤوليات بين الشاباك، وهيئة السايبر الوطنية، ومجلس الأمن القومي، والجيش، ووزارة الدفاع.
هذا التداخل، بدل أن يعزز الحماية، خلق فراغات استغلتها الهجمات السيبرانية. والأخطر أن الاحتلال، وفق الصحيفة، لم يبادر بهجمات رقمية فعّالة تخلق توازن ردع، ما جعل طهران “مضيئة الأنظمة” فيما تل أبيب غارقة في الدفاع.
من “ستوكسنت” إلى قلب المعادلة
يكتسب المشهد الحالي دلالته من مسار تاريخي أوسع. فقبل نحو 15 عامًا، شكّل هجوم “ستوكسنت” على المنشآت النووية الإيرانية أولى محطات الحرب الرقمية، حينها كان الهجوم موجّهًا من الخارج ضد إيران، غير أن طهران استوعبت الدرس، وطوّرت قدراتها السيبرانية ضمن بنية استخبارية رسمية، لتتحول من هدف إلى فاعل يعيد رسم قواعد الاشتباك.
إنشاء وحدة “شهيد شوشتري” داخل هيكل حرس الثورة مثّل نقلة نوعية، فهذه ليست مجموعة هاكرز هاوية، بل ذراع هجومية مؤسسية، تمتلك موارد وتنسيقًا استخباريًا وتوجيهًا سياسيًا.
وبفضل ذلك، انتقلت الهجمات الإيرانية من خروقات متفرقة إلى عمليات استراتيجية تستهدف بنى تحتية وشبكات حكومية واقتصادية، بما في ذلك كشف بيانات آلاف الإسرائيليين العاملين في وحدات حساسة.
المكافأة الأميركية… اعتراف لا لبس فيه
إعلان الخارجية الأميركية عن مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عن شخصيات سيبرانية إيرانية، يعكس إدراكًا متأخرًا لحجم التهديد، فحين تتحول القرصنة إلى ملف رأي عام وبروباغندا سياسية، فهذا يعني أن واشنطن وتل أبيب تواجهان عجزًا حقيقيًا.
التوقيت الحساس للإعلان يوحي بمحاولة ضغط سياسي وإعلامي، وتبرير خطوات تصعيدية مستقبلية، أكثر مما يعكس قدرة على الاحتواء.
وتكشف هذه التطورات أن موازين القوى لم تعد تُقاس فقط بالدبابات والطائرات، بل بالبيانات والخوارزميات والتحكم بالمعلومة.
لقد نجحت إيران في توظيف الحرب السيبرانية كأداة فعالة تُعادل في تأثيرها هجومًا تقليديًا، وتعيد تعريف مفهوم القوة. وفي المقابل، يواصل الكيان الإسرائيلي دفع ثمن الغرور الأمني، في معركة تؤكد أن التفوق المزعوم يمكن كسره من لوحة مفاتيح.
ويمثّل إعلان الخارجية الأميركية عن تخصيص مكافأة مالية ضخمة لمن يُدلي بمعلومات تحدد هوية أو مكان وجود فاطمة صديقيان كاشي ومحمد باقر شيرينكار تحوّلًا لافتًا في مقاربة واشنطن للملف السيبراني الإيراني.
وبدل الاكتفاء بالاتهامات السياسية أو الإجراءات التقنية السرّية، لجأت الولايات المتحدة إلى أسلوب أقرب إلى “المطاردة العلنية”، ما يعكس شعورًا متناميًا بالقلق من فعالية هذه الأذرع الرقمية.
هذه الخطوة لا يمكن فصلها عن إخفاقات متراكمة في احتواء الهجمات السيبرانية، ولا عن الضغوط الإسرائيلية المتصاعدة بعد اختراقات طالت بنى أمنية حساسة.
كما أن رفع القضية إلى مستوى المكافآت العلنية يحوّلها من شأن استخباري مغلق إلى ملف رأي عام، يُستثمر إعلاميًا لتضخيم “التهديد الإيراني” وتبرير مزيد من التصعيد. وبذلك، تبدو المكافأة اعترافًا ضمنيًا بأن الحرب السيبرانية خرجت عن السيطرة، وأن أدوات الردع التقليدية لم تعد كافية في هذا الميدان.