من حكايا عراقيي المهجر
العلّامة السيد عبد الزهراء الحسيني شخصية لن تُنسى .
لم أكن مسبوقاً بالتعرف على السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب قبل هجرتي من بغداد عام 1980 ، شابا تركتُ أهلي ووطني ويمَّمتُ وجهي تجاه المجهول ، وبعد هذا العام بآخر هاجرت تارة ثانية وهذه المرة من دمشق هادفاً الدراسة الدينية في الحوزة القُمّية ؛ بعدما لجأ إليها العديد من علماء حوزة النجف الأشرف وطلبتها ، حتى ليخال لك أن قطعة من النجف قد رُفعت وبأرض قم قد وُضعت .
وأثناء الدراسة في مدرسة الشهيد الصدر للعلوم الإسلامية بقُم، سمعتُ لأول مرة بكتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) والثناء على مؤلفه العلّامة المحقق والأستاذ المدقق سماحة السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب ، ثم سمعت بعد ذلك أنه قد وصل الى دمشق مهاجراً ولجَور الظالمين هاجراً.
وفي عام 1986 وبعد خمس سنين من مكوثي بإيران عدتُ إلى دمشق ، وأنا أتشرف باعتمار العمامة وارتقاء المنبر ، وليس ذلك الشاب الذي كان يعيش مع بعض الشباب العراقيين في بيت من بيوت الشباب التي كانت في منطقتَي السيدة زينب (ع) وشارع الأمين ؛ عام 1980 ؛ والتي كانت تنمو باضطراد مع زيادة الهجمة الظالمة للنظام البعثي البائد على الشباب الملتزم في العراق ، ثم بعد ذلك في مسكن صغير بحي الأمين مع زوجة وطفلة .
ومع أيام عودتي الأولى الى دمشق ومنطقة السيدة زينب (ع) ، لفت نظري وأخذ بمجامع قلبي ذلك السيد الجليل والإنسان النبيل؛ هيبة تملأ روحك وسكينة ووقار تسجد في محرابيهما ومحبة تستسلم طائعا أمامها ، من هذا السيد ؟ سألت أحدهم ، فأجاب : إنه السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب ، أهو صاحب المصادر ؟ سألت آخر : نعم هو وإجابة ثانية ، فبادرت إليه مسلّماً ولكفّه الشريف مصافحا ، حتى لقد خُيل إليّ أنني أعرفه من قبل هذا اللقاء ، فأحببته مذ رأيته ودَدته مذ لقيته .
ثم تبين لي سريعا أني لست الفائز الأول في هذا الشعور الأخّاذ المنجذب نحو شخصية سماحته ، بل قد سبقني إليه كل من لقيه وحظي بمعرفته وأسعدته الأيام بالاقتراب من سماحته ، وسيلحق بهم آخرون ممن سيهنأ بالتعرف عليه بعد ذلك .
يالله وما في قلب هذا الحبر الجليل والسيد الكبير من حب للآخرين !!! وحتى دون سابقة معرفة بهم ، حُبّه لهم وعطفه عليهم وإشفاقه بهم وهم غرباء مهاجرين ، فتراهم يبادلونه محبةً ويجسّدون له مودّة بتهافت على لثم يديه تقبيلا ، والنظر الى محيّاه تجليلا ، والتماس الدعاء منه تفضيلا .
وكم يفرح ساكنو بيت من بيوت الشباب تلك ، حينما يسمعون بوقع عصا السيد تقرع ابوابهم يزورهم ويشاركهم في طعامهم وربما حمل معهم (مسواگا) لهم ، ثم يحدثهم بأبويّة وشفقة فيُنمّي اخلاقهم ويحل مشكلاتهم ويغدق عليهم من جميل عطائه وجود كرمه . بابتسامته المعهودة والأرواح إليه مشدودة .
حتى لقد لاطفه ذات يوم أستاذنا الدكتور الشيخ الوائلي (رفع الله درجته) قائلا : سيدنا بِعْ عليَّ (خرزة) العزائم التي عندك ، وهو يرى شدّة حب المجتمع المهاجر الغريب للسيد العلامة الخطيب !!!
ولم يكن عطاء (السيد) هذا بمكان محدودا وبغيره مفقودا ، بل كان أينما حلّ وحيثما لُقي ، في حرم السيدة زينب (ع) مغرب كل يوم وفي مناسبات المهاجرين وبيوتهم وأماكن عملهم ، بل و حتى لمن في الشارع يلتقيهم .
كما كان يُقصد - تغمد الله نفسه الزكية بواسع رحمته - الى داره بحي المزّة ، وقد زرته صباح يوم جمعة وكان ضاحكا مستبشرا ، فسألته عن سببهما ، فعلمت أن كان لسماحته موعدان مع اثنين من الذين يغترفون من نبع كرمه وينتهلون من نمير قِراه ؛ أحدهما عنده مشروع زواج وقد هيّأ السيد له ظرفا مكتنزا ، والثاني يلتمس فضله في أمر عادي ، وقد أعدَّ له ظرفا أرشق من الأول .( وكان سماحة السيد من ظرفه ولطفه أنه يطلق على مثل هذه الظروف مصطلح "ضمير مندحس" !!) .
وصادف أن جاء صاحب الظرف الرشيق أولا ، فما كان من سماحة السيد إلا أن ناوله أحد الظرفين ، دون تدقيق ما فيهما - والكريم لا يدقق - فلما نزل من البناية التي يسكنها السيد وصار في الشارع ، رآه السيد فرحاً يقفز في الهواء من شدة فرحه ، فلما عاد الى الظرف الباقي اكتشف السيد أنه أعطاه الظرف المكتنز ، فوجد مستلمه عطاءً لم يكن ليحلم به، وراح السيد بدوره يضحك لضحكه ويسر لسروره ويفرح لفرحه ، ثم قام بإصلاح الظرف الرشيق ليعود مكتنزا بانتظار صاحبه الأصيل .
أرأيت مثل هذه النفس الكبيرة التي لا تبخل بعطاء ، وتفرح لفرح ذوي الحاجات وتدعو لهم .!؟
لقد كانت جوانب شخصية السيد رحمه الله متعددة وذات أبعاد متنوعة ، وفي مجلس لي بدمشق قلته في تأبينه : إننا أمام السيد عبد الزهراء الحسيني في منظومة رائعة من الأخلاق والمواقف النبيلة ، حتى إنك لتحتار من أيها تبدأ وعند أيها تقف .
هذا وقلم السيد لم يقف ومداده لم يجف وهو في دار هجرته ومنأى غربته وخريف عمره ؛ باحثا ومحققا ، ومؤلفا ومدققا، مع محبته للناس ومحبتهم له
وما تأخذه هذه العلاقات من أزمنة وأوقات .
إن السيد عبد الزهراء (قدس الله نفسه) ، وإن كان لقبه خطيبا ، إلا أنه كان عالما أكثر من كونه خطيبا ، ولكن حبه للحسين (ع) وعشقه لمنبره ، ورغبته في اعتلاء أعواده وحتى الى سنين متأخرة من عطاء عمره ، أكسبه هذا اللقب ففاز بتلك الرتب . وقد سمعته مرارا يقول : لو خُيّرت بين أن أكون مرجعا عظيما او أن أكون خطيبا نافعا متمكنا ، لاخترت أن أكون خطيبا حسينيا .
أقول هذا وأنا أعتقد أني قد أكون من أقل الذين استصحبوه وعرفوه ، في مواقفه النبيلة ، وأخلاقه الجليلة أو في حبهم له وتعلقهم به ، لأن السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب مشروع محبة وأطروحة خلق ورسالة نبل .
ولهذا تجد الحنين إليه والشوق له والاحتفاء به ، ظواهر إنسانية متفردة ، وحاضرة وبقوة ، لكل مَن عرفه فأحبه و لقيه فانجذب إليه.
اكتب هذه السطور ونحن نعيش ذكرى رحيله المؤلم في يوم 24/12/1993 ، يوم ضجّت دمشق وهي تحمل جثمان السيد الخطيب ليجاور عمته السيدة زينب (ع) ويُدفن في مقبرة الغرباء هناك ، وقد بكته العيون دماً ونعته القلوب ألماً ، ثم تواصلت مجالس الفاتحة لتأبين روحه الطاهرة ، لأكثر من أسبوعين متتاليين بدمشق ومن كل الأطياف ، ومختلف المشارب ، غير تلك التي أُقيمت بلندن ودبي وقم وأماكن مختلفة من العراق والعالم.
رحم الله السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب السيد الإنسان وإلى روحه وأرواح أهله وولدَيه الفاتحة.
فيصل الكاظمي