نحر الحسين وكبد الكاظم
يصرّ مؤرخو السلطة على اعتبار زمن هارون عصراً ذهبياً ويتبعهم في هذا النهج رواة ومحدثون وكتّاب يحرصون على تقديم النموذج السنّي للحكم أبهى من سواه
يصرّ مؤرخو السلطة على اعتبار زمن هارون عصراً ذهبياً
ويتبعهم في هذا النهج رواة ومحدثون وكتّاب يحرصون على تقديم النموذج السنّي للحكم أبهى من سواه، خاصة مع وجود حركات وتيارات معارضة من المذاهب الأخرى كانت تشعل ثورات حيناً وتقيم دويلات تارة أخرى كالبويهيين والفاطميين والحمدانيين والمزيدية، وكلها قامت في زمن حكم بني العباس وقدمت نجاحاً بالغاً علمياً وعمرانياً وإدارياً.
في عصرنا بالغ القوميون في تقديس ذاك الزمن وصوروه ضرباً من خيالات (ألف ليلة وليلة) وحرصوا على إقناع الفرد العربي أن ذلك الزمان زمان عز مطلق ورخاء مطلق وعلو مطلق في مختلف المجالات، وأخذوا يتباهون بكثرة علماء ذلك العصر دون أن يشيروا إلى أن أكثر أولئك العلماء لم يكونوا عرباً ولم يعيشوا ويمارسوا علومهم في كنف الدولة العباسية بل في دول انفصلت عنها وحكمت باستقلالية، ذلك أنهم لا يتوقعون من هذا (الفرد العربي) أنه سيبحث عن أصلهم وفصلهم بل سيكتفي باعتبارهم جزءاً من فضائل وإنجازات بني العباس (العرب).
وكثيراً ما يخبرون أن امتداد الدولة بلغ ما بين الصين شرقاً والبرتغال غرباً ويميلون طرباً لقول هارون للغيمة (امطري حيث شئتِ فخراجك لي) مع الإيحاء بأن هذه الدولة الشاسعة كانت في رخاء وسعادة لا تحدهما حدود، والواقع أن هذه المساحة لم تدم السيطرة عليها سوى سنوات معدودة ثم تحولت خلال خمسة قرون إلى دويلات منفصلة تعاقب فيها عشرات الأسماء، ولم يخلُ يوم سابقاً ولاحقاً من الثورات والانقلابات والمؤامرات والخيانات وما يعكسه ذلك من ويلات على السواد الأعظم من الرعية وإهمال شؤونهم.
هارون العباسي، الذي تزوج عبدة سوداء في رهان لعبة الشطرنج كان قد خسره أمام زوجته الحسناء وأنجب منها المأمون، كان لا يطيق بغداد العاصمة التي يصوّر مأزومو التاريخ أنه جعلها عروس مدن الزمان ذات قصور لها قباب ملونة لا ينقصها غير مصباح علاء الدين السحري. لقد عاش أكثر سنيّ حكمه بعيداً عنها ولم يطرب لشيء مثل النساء اللواتي كان يطيعهن طاعة العبد للسيد وحسبك هذه الأبيات المرفقة في تصريحه شعراً. أما وصف الرشيد والعصر الذهبي فهي الألقاب التي كان المؤرخون يقبضون ثمن ترويجها تارة وتُمليها أهواء المأزومين تارة أخرى لحشو الأذهان بها بكل الوسائل.
وعلى غرار ما فعله نحر الحسين لإظهار الحقيقة رغم المساعي المهولة لإخفائها عن يزيد، كان كبد الكاظم هو الكاشف لهذا التزييف الذي كاد يمسخ الحقائق ويذيب العقول في تصديق أكاذيب السلطة وأبواقها المعاصرين والمتأخرين حول بني العباس وزمانهم.
ولذلك نقول في سياق آخر: إن حياة الأئمة مختلفة وسيرتهم متنوعة لكن هدفهم واحد وأثرهم واحد.