قمع شديد للمحتجين في فرنسا يذكّر بمجزرة الجزائريين بباريس.. مخاوف من تجدد مأساة "نهر السين"
انفوبلس/ تقارير
شابت التظاهرات التي لا زالت تجوب شوارع فرنسا منذ شهرين احتجاجا على إصلاح نظام التقاعد، أعمال شغب ترافقت مع ممارسات عنيفة للشرطة وقمع شديد للمحتجين، أُعيد إلى الذاكرة مجزرة الجزائريين في باريس عام 1961، وإلقاء جثث الضحايا في نهر السين، لتُبرهن تلك المشاهد على زيف الديمقراطية المزعومة لفرنسا وكذبة حريات التعبير.
*سبب الاحتجاجات
استخدمت رئيسة الوزراء إليزابيت بورن مؤخرا، المادة 49.3 من الدستور الفرنسي لتمرير مشروع قانون لرفع سنّ التقاعد في البلاد من 62 إلى 64 دون تصويت في البرلمان.
وأثارت هذه الخطوة موجة من السخط بين النواب الذين أعلنوا "نهاية الديمقراطية".
واندلعت في باريس تظاهرات بعد تبنّي مشروع القانون، ونظّم المحتجون لمدة يومين على التوالي، تظاهرات في ساحة الكونكورد في باريس مقابل قصر بوربون، حيث تجتمع الجمعية الوطنية (البرلمان)، وتحولت المظاهرات إلى اشتباكات بين الشرطة والمحتجين.
*قمع شديد
واستخدمت شرطة مكافحة الشغب الغاز المسيّل للدموع ضد المتظاهرين في مصفاة نفط في مدينة فوس سور مير الفرنسية جنوب البلاد أثناء محاولتهم منع الوصول إلى مستودع النفط، حسبما ذكرت صحيفة "20 Minutes" الفرنسية.
وبحسب ما ورد، تجمّع المتظاهرون لدعم المُضربين عن العمل، وذكرت الصحيفة أن ثلاثة من ضباط الشرطة أُصيبوا في الاشتباك.
كما استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين الذين تجمعوا في ساحة الجمهورية في باريس بعد أن بدأوا في إلقاء الألعاب النارية والزجاجات على ضباط وعناصر الشرطة.
*حقوق الإنسان تتدخل
مفوضية حقوق الإنسان في مجلس أوروبا، أكدت أن أعمال العنف المتفرقة لبعض المتظاهرين أو أفعال أخرى مُدانة ارتكبها آخرون خلال تظاهرة، لا تبرر الاستخدام المفرط للقوة من قبل عناصر تابعين للدولة، هذه الأعمال لا تكفي كذلك لحرمان متظاهرين سلميين من التمتع بحرية التجمع.
*نظام استبدادي
في المقابل، اعتمدت المنظمات غير الحكومية لهجة لاذعة أكثر، وعلّق رئيس رابطة حقوق الإنسان باتريك بودوان: "الانجراف الاستبدادي للدولة الفرنسية وإضفاء الطابع العنفي على العلاقات بواسطة الشرطة وأعمال العنف على أنواعها والإفلات من العقاب تشكل كلها فضيحة مدوّية".
*أسلوب تعسفي
واتهمت الرابطة السلطات بالمساس "بحق المواطنين في الاحتجاج من خلال الاستخدام غير المتناسب والخطر للقوة".
وانتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش "الاحتواء التعسفي للحشود وتكتيكات مكافحة الشغب".
*مجزرة الجزائريين في باريس عام 1961
ذكّرت قسوة النظام الفرنسي تجاه المحتجين، بمجزرة الجزائريين في باريس عام 1961، حيث يُعد هذا اليوم أحد أهم وأسوأ الأحداث في تاريخ الثورة الجزائرية، ويوصف بالمجزرة التي ارتكبتها فرنسا ضد متظاهرين جزائريين خرجوا في احتجاجات سلمية على حظر التجول الذي فُرِض على الجزائريين في باريس عام 1961.
أطلقت الشرطة الفرنسية بأمر من محافظ شرطة باريس موريس بابون يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961 النار على جزائريين مهاجرين نزلوا إلى الشوارع في مسيرات ضخمة قُدِر المشاركون فيها بالآلاف بدعوة من جبهة التحرير الوطني احتجاجا على قانون صدر ضدهم، وللمطالبة باستقلال بلادهم، التي كانت قد اجتازت قرابة سبع سنوات من الكفاح المسلح حينها.
وتعود الأحداث إلى الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول 1961 عندما أصدر بابون أمرا بحظر تجوال الجزائريين من الساعة الثامنة مساء وحتى الخامسة والنصف صباحا، واعتبر المهاجرون الجزائريون وقتها الحظر عنصريا وتعسفيا.
وفي 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961 وفي الثامنة مساء خرج آلاف الجزائريين في باريس بمظاهرات سلمية وتجمعوا في الساحات العامة للتنديد بالقرار، ولإبلاغ السلطات الفرنسية بمطالب عبّرت عنها شعاراتهم التي تقول "فلْيسقط حظر التجوال.. تفاوضوا مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.. الاستقلال للجزائر.. تحيا جبهة التحرير".
*إلقاء الجثث في نهر السين
وهاجمت قوات الشرطة المتظاهرين الجزائريين وقتلت العشرات منهم عمدا في الشوارع ومحطات مترو الأنفاق، وألقت بالعشرات منهم في نهر السين حتى طفت جثثهم على سطحه، في عمليات قمع للمسيرات لا يُعرف تحديدا عدد ضحاياها.
ويذكر مؤرخون وكُتّاب شهدوا الأحداث أن الشرطة اعتقلت نحو 12 ألف جزائري واحتجزتهم في مراكز الشرطة وفي محتشدات أنشأتها لهم في قصر الرياضات في باريس وقصر المعارض، وتعرضوا هناك للاستجواب والإهانة والضرب والتعذيب والقتل.
*شهادات من المجزرة
وفي شهادة متلفزة له، أكد سعيد بقطاش -أحد المتظاهرين آنذاك- أن تلك المظاهرات سرعان ما تحولت إلى مجازر، وأن "قوات الشرطة الفرنسية هجمت على المتظاهرين بالهراوات والرصاص الحي، وألقت بعض المتظاهرين مكبّلين في نهر السين، وفي اليوم التالي طفت الجثث على سطح الماء".
وقال سعيد بقطاش، إن آلاف الجزائريين اعتُقلوا في تلك المظاهرات، مشيرا إلى أن بعضهم مات تحت التعذيب.
بدوره صرّح المؤرخ الجزائري حسن زغيدة أن ما جرى في مظاهرات 17 أكتوبر/ تشرين الأول هو جريمة دولة منظّمة، تُعاقب عليها جميع القوانين الدولية ولا تموت بالتقادم. وكشف أن مجازر 17 أكتوبر جرت وسط تعتيم إعلامي، حيث منعت السلطات الفرنسية حضور الصحافة والكتابة عن المجزرة، كما تجاهلت شكاوى ذوي المفقودين في المظاهرات.
وقالت الناجية الفرنسية من المجزرة مونيك هيرفو في شهادة سابقة لها، إنها شاهدت بأمِّ عينيها كيف أطلق عناصر من الشرطة النار على الجزائريين، وكيف كانوا يلقون بالجثث في النهر.
*أعنف قمع في التاريخ المعاصر
ووصف المؤرخان البريطانيان جيم هاوس ونيل ماكماستر ما تعرّض له الجزائريون يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول في كتابهما "الجزائريون، الجمهورية ورعب الدولة" بأنه "أعنف قمع لمظاهرة في أوروبا الغربية في التاريخ المعاصر".
ويؤكد المسؤولون الجزائريون أن ضحايا 17 أكتوبر/ تشرين الأول يتراوح عددهم بين ثلاثمئة وأربعمئة قتيل، أُلقي بجثث العشرات منهم في نهر السين، فضلا عن المفقودين.
بينما يؤكد المؤرخ الفرنسي جون كلود إينودي في كتابه "معركة باريس"، أن أكثر من مئة إلى 150 جزائريا قُتلوا أو اختفَوا قسرا في تلك الأحداث، وحمّل المؤرخ الشرطة الفرنسية بقيادة بابون صراحة مسؤولية قتلهم.
*الاعتراف الفرنسي
أنكرت فرنسا على المستوى الرسمي لسنوات مجزرة 17 أكتوبر/ تشرين الأول، غير أن الرئيس فرانسوا هولاند أقرّ بها في خطاب له بالجزائر في ديسمبر/ كانون الأول 2012 لكن دون أن يقدم الاعتذار، حيث قال "إن فرنسا تعترف بكل وعي "بالمأساة" التي تمثلت في قمع دموي تعرّض له جزائريون كانوا يتظاهرون من أجل حقهم في الاستقلال"، وكان ذلك أول اعتراف رسمي من فرنسا بتلك المجزرة.
وتحدث مؤرخون فرنسيون عن المجزرة أبرزهم جون لوك اينودي الذي كشف في شهادته التي نُشرت في 20 مايو/ أيار 1998 في صحيفة لوموند، أنه في أكتوبر/ تشرين الأول 1961 "وقعت في باريس مجزرة اقترفتها قوات الشرطة بأمر من موريس بابون"، وهي الشهادة التي دفعت بابون -الذي أُدين عام 1998 خلال محاكمته بالتعاون مع النازية– إلى تقديم شكوى ضده عام 1998 بتهمة التشهير ضد موظف عمومي، لكنها رفضت عام 1999 وتمت تبرئة المؤرخ.
كما أن الفرنسيين خلّدوا مجازر17 أكتوبر بوضع لوحة كبيرة على جسر في سان ميشال وكُتِب فيها "من هنا كانت ترمي الشرطة الجزائريين في نهر السين في 17 أكتوبر 1961″، لكن هذه اللوحة تعرّضت للتخريب قبل أن يُعاد تثبيتها، إضافة إلى تأسيس "جمعية 17 أكتوبر 1961 ضد النسيان".


